تفجير منبج وأثمان التردد الأميركي في سورية

18 يناير 2019
تلويح واشنطن بالانسحاب أعاد خلط الأوراق (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -

لا يمكن التقليل من أهمية مقتل أربعة جنود أميركيين في التفجير الذي تبناه تنظيم "داعش" في منبج. الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وصف سورية، نهاية العام الماضي، بأنها "صحراء وموت"، سيشيع القتلى الأميركيين وهو يبحث عن طريق الخروج من رمال سورية المتحركة. التردد الأميركي منذ قرار ترامب الانسحاب من سورية، في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عرّض جنوده في الميدان للخطر، وقوّض دبلوماسية واشنطن الإقليمية، وفتح شهية الأطراف المؤثرة في سورية لملء الفراغ الأميركي.

تداعيات قرار ترامب المباغت بالانسحاب من سورية لا تزال تتفاعل، وهي تداعيات تحمل أبعاداً داخلية وخارجية. على المستوى الداخلي، تركت استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، والمبعوث الخاص للتحالف الدولي لمكافحة "داعش" بريت ماكغورك، اللذين كانا على خطوط تماس التفاعل الدبلوماسي الأميركي مع صناع القرار الإقليمي في سورية، فراغاً بيروقراطياً في واشنطن. بعدها، فشل وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، بإقناع الحلفاء، خلال جولتهما الإقليمية، بجدية الالتزام الأميركي في سورية وحتى المنطقة. النتيجة كانت رسائل أميركية متناقضة مع مقاربة غامضة بدون تحديد جدول زمني أو شروط للانسحاب، ولا قدرة على الاستمرار بالسياسة نفسها التي كانت قبل الانسحاب. وأعلنت إدارة ترامب، الجمعة الماضي، عن بدء سحب العتاد الأميركي من شمال سورية وليس الجنود، في وقت يبقى البنتاغون من دون قيادة مدنية، ويمر بمعضلة التوفيق بين إرضاء الرئيس بأن أوامره تُنفّذ مع محاولة الحفاظ على المهمة الأميركية ذاتها في المدى المنظور، ما يعطي انطباعاً وكأن هناك فجوة كبيرة بين مواقف ترامب من جهة وسياسة إدارته من جهة أخرى.

والبعد الثاني لتداعيات قرار الانسحاب الأميركي كان على الجبهة الدبلوماسية. فعلى الرغم من أن القوات الأميركية المنتشرة في شمال سورية لم تكن في وضعية مقاتلة، فإن مجرد سحبها خطوة رمزية تشكك في التزام واشنطن بلعب دور رئيسي في المعادلة الإقليمية. مع العلم أن القوات الأميركية ستحتفظ بالقدرة على توجيه ضربات جوية من خلال الطائرات بدون طيار أو عبر الحدود العراقية، ويتوقع أن تحتفظ بسيطرتها على قاعدة التنف على الحدود المشتركة السورية-العراقية-الأردنية. لكن كلام بومبيو عن أن الانسحاب لا يتناقض مع الردع الأميركي لإيران في سورية يبقى غير مقنع، ويثير مرة أخرى تساؤلات حول أفق مقاربة واشنطن حيال إيران أبعد من إعادة فرض العقوبات الاقتصادية. ولا يمكن لمؤتمر وارسو المرتقب حول إيران ولا جولات بومبيو وبولتون في المنطقة الحد من الضرر الذي تركه قرار الانسحاب، حتى لو أنه لم يحصل فعلياً في نهاية المطاف.



والبعد الثالث هو في الميدان، وتحديداً وظيفة الجيش الأميركي في سورية، التي كانت على مدى الأعوام الأخيرة هزم "داعش" والحيلولة دون وقوع مواجهات تركية-كردية في شمال سورية وتثبيت "الفيتو" على أي حل سياسي في سورية لا ترضى واشنطن به. هذه الركائز للسياسة الأميركية في سورية أصبحت أكثر هشاشة خلال الأسابيع الأخيرة. قرار ترامب بالانسحاب صرف الأنظار عن محاربة "داعش"، وسمح لهذه المجموعة المتشددة بالظهور مجدداً في منبج ولعب دور في معادلة الانسحاب الأميركي من سورية. كما يتماشى قرار ترامب بالانسحاب العسكري مع استمرار الانسحاب الأميركي من المسار السياسي في جنيف.

لكن البعد الأهم يبقى ما إذا ستنفض واشنطن يديها من اتباع مقاربة لا يبدو أن هناك أفقاً لها، تُزاوج فيها بين دعمها للأكراد وحرصها على علاقة جيدة مع أنقرة. وحاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الأسابيع الأخيرة عبر اتصالين هاتفيين مع ترامب، انتزاع موقف من واشنطن بتفويض أنقرة ملء فراغ الانسحاب الأميركي. وبعد رفض أردوغان استقبال بولتون لأنه رهن الانسحاب الأميركي بعدم تعرض الأتراك للأكراد، غرّد ترامب بأن عقوبات أميركية ستدمّر الاقتصاد التركي في حال هاجمت أنقرة القوات الكردية. لكن بعد هذه التغريدة، جرى اتصال آخر بين أردوغان وترامب، حيث تم نقاش فكرة إنشاء منطقة عازلة في شمال سورية بعمق 32 كيلومتراً. فكرة المناطق الآمنة ليست جديدة، وهي تتكرر بين الحين والآخر في الحرب السورية، مثل فكرة إرسال قوات عربية، لكنها مقترحات لا أفق لها، وتأتي عادة في الوقت الضائع لتكون بديلاً من عدم رغبة واشنطن في أن تلعب دوراً مباشراً في ضمان الاستقرار في سورية. أي نقاش أميركي-تركي حول المنطقة الآمنة سيصطدم مرة أخرى بتفاصيل من يُمسك الأرض ويفرض السيطرة على هذه المنطقة.

سيناريوهات المرحلة المقبلة قد يكون من الصعب التنبؤ بها في ظل مواقف ترامب المباغتة. بعيد إعلان قراره سحب القوات الأميركية من سورية، غرّد ترامب، في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بأنه في حال قام تنظيم "داعش" باستهداف القوات الأميركية فإن مصيره في سورية سيكون "الهلاك". والآن بعد استهداف "داعش" القوات الأميركية وهي على طريقها للخروج، قد يضطر ترامب لاستعراض القوة والقيام برد عنيف على المدى القصير، وهو رد قد يوسع تورطه في الحرب السورية بدلاً من التخطيط اللوجستي للانسحاب منها.

لكن تلويح واشنطن بالانسحاب أعاد خلط الأوراق في غرب الفرات وشرقه، لا سيما في مدينة منبج الاستراتيجية على تخوم الحدود التركية، والتي أصبحت الآن بين كماشتين: الفصائل السورية المدعومة من تركيا على الجهتين الشمالية والغربية، والنظام السوري المدعوم من روسيا على الجهة الجنوبية. وبالتالي الافتراض أن واشنطن، في حال حسمت قرار الانسحاب، ستكون قادرة على تجيير شمال سورية للأتراك أو غيرهم، هو أمر لن يتحقق بسهولة ولا من دون سقوط ضحايا في مواجهات على الحدود التركية-السورية. أميركا تريد الانسحاب، وفي الوقت نفسه حماية القوات الكردية وحفظ المصالح التركية ومنع النظام السوري من دخول شمال سورية، وهي أهداف متناقضة لا تضمن إدارة ترامب تحقيقها. وبدأت الأطراف المعنية في شمال سورية بدرس خياراتها في الأسابيع الأخيرة وتجهز خططاً بديلة من الانسحاب الأميركي. القوات الكردية وسعت قنواتها مع موسكو، وطلبت من النظام السوري دخول منبج لحمايتها، وأردوغان يعقد اجتماعاً مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع المقبل، إذ ستعرض عليه موسكو فكرة موازية للعرض الأميركي هي منطقة آمنة يسيطر عليها النظام السوري مع أخذ المصالح التركية في الاعتبار. ما قد يحصل في منبج قد يحدد في وقت لاحق مصير شرق الفرات. من الصعب تخيل انسحاب أميركي وشيك بدون التوصل إلى اتفاق مع تركيا، وهذا الأمر يبدو بعيد المنال في المدى المنظور، لأن مصالح الطرفين في شمال سورية لا يمكن التوفيق بينها في الظروف الحالية؛ ما يعني بكل بساطة أن واشنطن لم تكن لديها استراتيجية للبقاء في سورية، والآن ليست لديها استراتيجية للخروج.