وقبل الحديث عن مكامن نجاح وإخفاق الاتفاق، تجدر الإشارة إلى أنه جاء بضغوط دولية قوية، سعت لفرض وقف العمليات العسكرية باتجاه المدينة، انطلاقاً من الكلفة المتوقعة على المدنيين، وأي آثار قد تفاقم الأزمة الإنسانية الكارثية، باعتبار الحديدة المنفذ الحيوي الأهم لوصول المساعدات والواردات التجارية لأغلب مناطق شمال البلاد ووسطها. وكانت الحكومة والتحالف يعتبران أن انتزاع السيطرة على الحديدة، سيمثل تحولاً مفصلياً في مسار المعركة مع الحوثيين، الذين نظروا إلى الحديدة، من الزاوية ذاتها، باعتبارها معركة وجودية، لا يقتصر تهديد خسارتها على المدينة ذاتها، بل كان يمكن أن تلقي بظلالها على مختلف جبهات الحرب المشتعلة والمدن الخاضعة لسيطرة الجماعة.
وبالعودة إلى مجريات التحولات في الحديدة على مدى عام، فإن أبرز نجاح للاتفاق تمثل في الوقف الفعلي لحملة الحكومة والتحالف لانتزاع الحديدة، بعد أن توقفت في الأطراف الشرقية والجنوبية للمدينة أواخر العام الماضي. وشمل التوقف الضربات الجوية بصورة شبه كلية والعمليات الهادفة إلى التقدم لانتزاع السيطرة على مناطق جديدة، من الطرفين، باستثناءات محدودة، نفذ فيها التحالف غارات على المدينة، مع بقاء الخروق في مناطق التماس.
لجنة المتابعة وثلاثة جنرالات أمميين
إلى جانب وقف العمليات العسكرية (بنطاقها الواسع)، يعد تشكيل لجنة تنسيق إعادة الانتشار، والتي تألفت من ممثلين عن الطرفين وبرئاسة الأمم المتحدة، أحد أبرز بنود الاتفاق، التي انتقلت إلى واقع التنفيذ، منذ الأسابيع الأولى لإعلانه، بوصفها الإطار المعني بمتابعة التنفيذ والتفاوض حول مختلف الخطوات واحتواء التصعيد الذي يعود من حين إلى آخر في مناطق التماس. وفي السياق، يأتي الدور المحوري في اللجنة، للأمم المتحدة، بوصفها الوسيط والمراقب على التنفيذ. وتناوب على المهمة، خلال عام مضى، ثلاثة جنرالات، كان كل واحد منهم بمثابة الشخصية المحورية التي يمكن أن تُعلق عليها النجاحات، ابتداءً بالجنرال الهولندي باتريك كاميرت، الذي استقال بعد شهر واحد من تولي المهمة، بسبب اصطدامه بتفسير الحوثيين للاتفاق، ومن ثم خلفه الجنرال الدنماركي مايكل لوليسغارد، الذي استمر الفترة الأطول، قبل أن تؤول اللجنة إلى الرئيس الحالي الهندي أبهيجيت غوها، منذ سبتمبر/أيلول الماضي.
وبصرف النظر عن مجمل التفاصيل، كان التحول الذي حدث بين عهدي كاميرت ولوليسغارد، مجيء الأخير الذي أدار مهمته من على ظهر سفينة في البحر الأحمر قبالة الحديدة، بناءً على التحديات التي برزت في أول أسابيع الاتفاق، وسعى إلى عدم الوقوع في موقف سلفه الذي استقال، بما في ذلك، الحفاظ على علاقة جيدة في الغالب مع الحوثيين، الذين لا يزالون المسيطر الأكبر على مناطق الحديدة. أما الطرف الحكومي، فقد وجه انتقادات للجنرال الدنماركي في أكثر من محطة.
إعادة الانتشار محور الفشل
إذا كان اتفاق استوكهولم، قد نجح بوقف العمليات العسكرية عن الحديدة، فإن الشق الأبرز تالياً، من الناحية العملية، يتمثل في مختلف البنود المتصلة بما أُطلق عليه "إعادة الانتشار"، بوصفها مقياس تنفيذ الترتيبات التي تنزع فتيل الحرب عن الحديدة كمدينة مركزية ومختلف مدنها الفرعية (المديريات)، في ظل المعاناة التي يدفعها السكان، نتيجة تمحور الحرب باتجاه المحافظة منذ أكثر من عامين. ومنذ الأسابيع الأولى للتنفيذ، برزت "إعادة الانتشار" وما يتصل بها من بنود عملية، كمحور للخلافات بشأن التنفيذ؛ إذ ذهب كل طرف لتفسير ما يقتضيه الاتفاق، بناءً على موقفه، حيث أعلن الحوثيون عن "إعادة انتشار" من طرف واحد من موانئ الحديدة، بتسليمها من مسلحيهم إلى قوات أخرى خاضعة لهم، الأمر الذي رفض كاميرت الاعتراف به كخطوة تتماشى مع روح الاتفاق، في حين اضطر خلفه لوليسغارد، للترحيب بالخطوة ذاتها من قبل الحوثيين في مايو/أيار الماضي، الأمر الذي شكل شرخاً في علاقته مع الجانب الحكومي، ومثل ذلك بالنسبة للمبعوث الأممي مارتن غريفيث، بعد أن رحب بما قام به الحوثيون، خطوة إيجابية.
جوهر عقدة التنفيذ في الحديدة، يتصل بكون الاتفاق يفترض انسحابات للقوات العسكرية للطرفين من الحديدة وتسليمها لقوات الأمن المحلية، على أن تصبح المحافظة خاضعة للسلطة المحلية. وتقول الحكومة إنها الطرف الوحيد المعني قانوناً بتولي أمن المدينة، أي أن القوات الأمنية والسلطة المحلية التي يجب أن تؤول إليها الحديدة تتبع الحكومة الشرعية، أو على الأقل، تمثل واقع المدينة، قبل سيطرة الحوثيين في سبتمبر/أيلول 2014. في المقابل، فإن تفسير الحوثيين للاتفاق، يشمل أن تؤول المدينة إلى القوات الأمنية الخاضعة لسيطرتهم، ولذلك فإن عملية "إعادة الانتشار أحادية الجانب"، من قبل الجماعة، تمت من قواتها إلى قواتها. لكن وباعتبار أن الأخيرة هي المؤسسة الرسمية اليمنية (قوات خفر السواحل)، وتحت وطأة الضغوط وحاجة الأمم المتحدة للحديث عن تقدم، اعترفت منتصف العام الماضي، بما تعتبره الحكومة "مسرحية" تسليم الحوثيين ميناء الحديدة لأنفسهم، وتقدمت على أثر ذلك بشكوى رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، منتصف العام الحالي. وطلب البرلمان رسمياً من الحكومة وقف التعامل مع المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، واعتباره منحازاً للحوثيين، بسبب موقفه المتصل بالحديدة. وعدا عن النجاح المحدود، المتمثل في الاتفاق على إنشاء نقاط رقابة مُشتركة تتألف من ضباط اتصال من الطرفين، بإشراف الجنرال الهندي أبهيجيت غوها، الذي يترأس اللجنة حالياً، يمكن القول إن التقدم باتفاق بتنفيذ اتفاق الحديدة، انحصر على مدى عام، في وقف العمليات العسكرية، في حين أن الخلاف الجوهري بشأن التنفيذ، لا يزال يدور في حلقة مفرغة.
التعزيز العسكري بدلاً من نزع الفتيل
في حين ينص الاتفاق حرفياً على "الالتزام بعدم استقدام أي تعزيزات عسكرية من قبل الطرفين إلى محافظة ومدينة الحديدة وموانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى"، تعد أبرز الآثار السلبية للوضع الذي أنتجه عدم التنفيذ، تحول فترة التهدئة منذ أكثر من عام إلى فرصة لالتقاط الأنفاس واستقدام التعزيزات من الجانبين، وصولاً إلى حفر الخنادق والمتاريس، خصوصاً من جانب الحوثيين، على نحو يبقي الوضع في الحديدة قابلاً للانفجار في أي لحظة. كما أن الكلفة، في حال تجدد المعارك بنطاقها الأوسع، يمكن أن تكون أكبر، بناءً على ما استجد من استعدادات لدى الجانبين، فضلاً عن الآثار الأخرى التي تدفع كل طرف، للتمسك بشروطه ورؤيته الخاصة بتنفيذ الاتفاق. في الأثناء، يمكن القول إن اتفاق السويد، الذي كان الأول من نوعه منذ تصاعد حدة الحرب أواخر 2014 ومطلع 2015، نجح بعد عام من توقيعه في تجميد الوضع الميداني بالحديدة، وجنب المدينة معركة عسكرية، لكنه في المقابل، فشل في التقدم بأي ترتيبات تُبعد الحديدة عن عين العاصفة، وكهدوء يسبق الانفجار في أي ظرف تصعيد عسكري.
وفي حين يحتفظ كل طرف برؤيته لما يقتضيه الاتفاق، ينظر محللون إلى أن جوهر الخلل، يتصل أصلاً بالصيغة غير الحاسمة للاتفاق، بحيث لم ينص صراحة على الجهة التي يجب أن تؤول إليها السلطة في مدينة الحديدة، بقدر ما جعل مفاوضات التنفيذ تدور في ما يشبه حلقة مفرغة وتتصل بالغالب في الحد من الخروق، في صورة لا تختلف عن الوضع في مناطق أخرى في البلاد (احتفاظ كل طرف بالسيطرة على أجزاء من المحافظة)، مع الخصوصية التي تتمتع بها الحديدة، سواء على صعيد خارطة السيطرة العسكرية، والتي لا تسمح لأي طرف بالبقاء آمناً في مناطق سيطرته من هجمات الآخر، أو على صعيد أهميتها الاستراتيجية، وبرغبة الحكومة والتحالف في انتزاع السيطرة عليها، فيما لا يختلف الأمر بالنسبة للحوثيين.
إلى جانب ذلك، فإن أبرز تأثير تركه اتفاق الحديدة على الساحة اليمنية عموماً، وجهود المبعوث الدولي لإحياء عملية السلام، هو أن هذه الجهود انحصرت في الحفاظ على التقدم الهش في الحديدة واحتواء التصعيد من حين إلى آخر، في حين أن الحكومة تقول إن أي مفاوضات جديدة تبقى معقودة على تنفيذ اتفاق استوكهولم، واعتبار أن الدخول بأي مفاوضات أو اتفاقات جديدة، قبل تنفيذ هذا الاتفاق، بمثابة خطوة عدمية. وفي حديثه لـ"العربي الجديد"، يرى الباحث والخبير العسكري اليمني علي محمد الذهب أن "صمود أو انهيار اتفاق استوكهولم يخضع لعدد من الإرادات المتصادمة، ومن يمتلك الإرادة الأقوى لن يطول به الصبر، وسيُسقط هذا الاتفاق من يحقق غايته، حتى وإن كانت النتائج الإنسانية كبيرة، لأن عملية السلام باتت كلفتها أكثر من تكلفة الحرب". ويضيف أنه "من المعلوم أن أي عمل عسكري يسبقه تقدير موقف، وعلى ضوئه يتخذ القرار". ويرى أن "الآلة الإعلامية للحوثيين وحلفائهم نجحت في تضخيم العواقب الإنسانية المحتملة من أي محاولة عسكرية لاقتحام الحديدة، وكان لذلك صدى كبير في عواصم الغرب، على المستويين الرسمي والشعبي، ما ساعد على إحداث تحرك دولي رسمي للضغط على التحالف وحمله على التخلي عن الخيار العسكري لاقتحام مدينة (ميناء) الحديدة". ويشير إلى الاختلالات في جانب تشكيلات الشرعية المفترضة ودور الإمارات، التي كانت تتصدر واجهة دعم العملية من جانب التحالف. ويقول إنها واجهت ضغوطاً، مثل تنامي التهديد بالطائرات المسيرة التي يزعم الحوثيون أنهم يقفون وراءها، ومن ذلك استهداف مطار أبو ظبي في يوليو/تموز 2018، أي قبل التوقيع على اتفاقيات استوكهولم بأربعة أشهر، وقد كشف عن ذلك بالأدلة منتصف العام 2019.