الأمن المفقود في سورية: مليشيات النظام تذبح حلب (3/ 10)

26 ديسمبر 2018
تشهد حلب اشتباكات بين المليشيات المتقاتلة (عارف وتد/فرانس برس)
+ الخط -
في أواخر عام 2016، سيطر النظام السوري على مدينة حلب بالدم والنار، عقب خروج آخر دفعة من مقاتلي المعارضة والمدنيين من الجزء الشرقي من مدينة حلب، بموجب "اتفاقٍ" برعاية روسيا وإيران بين النظام السوري والمعارضة. وأصدرت قوات النظام حينها بياناً وصفت فيه هزيمة مسلحي المعارضة في مدينة حلب بأنها "تحول استراتيجي ومنعطف مهم في الحرب على الإرهاب". وجاءت هذه السيطرة عقب حصار الجزء الشرقي من المدينة ثم اقتحامه من قبل قوات النظام بمساعدة مليشيات إيرانية وتغطية جوية روسية مكثّفة، ما أسفر عن مقتل المئات من سكّان المدينة، فضلاً عن دمارٍ واسع في البُنى التحتية وصف بأنه الأكبر في سورية. ولكن بعد نحو ثلاث سنوات من سيطرة النظام السوري والمليشيات المحلية والطائفية المتحالفة معه، كيف أصبحت حلب.

منذ سيطرة النظام السوري المدينة وحتى اليوم، لا تزال حلب وسكّانها خاضعين لاحتلال المليشيات التي دخلت بالقوة، ولم ينعم الأهالي بيومٍ هادئ. أبرز المليشيات المحلية المسيطرة في حلب هي مليشيا "آل بري"، وهي من كبريات عائلات المدينة، وأكثرها دموية حتى قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، وعُرفت بقمعها التظاهرات السلمية في عام 2012 في جامعة حلب، وقيامها بعمليات قتل واغتصاب وسرقة للمدنيين، وتتمركز في حي باب النيرب بحلب، كما أن كبار قادتها هم إمّا قادة أمنيون في أرفع مناصب النظام الأمنية أو مسؤولون سياسيون وأعضاء في مجلس الشعب السوري.

إضافةً إلى مليشيا بري هناك مليشيا "الباقر"، المُشكّلة من عشيرة "البقّارة" في مدينة حلب، وهي واحدة من أكثر المليشيات المحلية دموية ويقودها شيخ عشيرة البقارة نواف البشير، الذي عاد إلى كنف النظام بعد أن كان في صفوف المعارضة. كما أن الشرطة العسكرية الروسية التي انتشرت في مدينة حلب بعد سيطرة النظام السوري عليها لم تسلم من هذه المليشيا، فقد قُتل في عام 2017 عدد من العسكريين الروس على يدها في حي طريق الباب في أقصى شرق مدينة حلب، إضافةً إلى أن هذه المليشيا تحظى بدعم إيراني لا محدود، فقد كشفت مصادر مطلعة لـ "العربي الجديد" أن "إيران تحاول إيجاد وجه من الطائفة السنية لتنفيذ أجنداتها من دون تدخّلها بشكل مباشر لعدم إثارة غضب الأهالي". وثمّة أيضاً مليشيا "الدفاع الوطني السوري" ولكنها تتمركز في أحياء حلب الغربية التي لم تدخلها المعارضة إطلاقاً. كما أن هناك أيضاً المليشيات الطائفية التي تحمل أجندات إيرانية مثل "لواء أبو الفضل العباس" و"حركة النجباء" و"حزب الله" و"فاطميون" وغيرها.


وبعد "اتفاق المدن الأربع" (إبريل/ نيسان 2017) الذي تم بموجبه تهجير المدنيين والمقاتلين من قريتي كفريا والفوعة في ريف إدلب نحو مدينة حلب، تحوّلت جميع المليشيات الطائفية من كفريا والفوعة إلى جزء أساسي من عصابات حلب، وهو ما أفضى إلى سلسلة مصادمات أمنية. ففي شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، دارت اشتباكات عنيفة أسفرت عن حالة هلع بين المدنيين، واستخدمت فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة. لم تكن هذه الاشتباكات بين النظام والمعارضة، كما أنّها لم تكن بين جيشين نظاميين، بل كانت بين مليشيا موالية للحكومة وجناح عسكري لإحدى العائلات الكبيرة الموالية للنظام.

وأفادت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" بأن "عائلة برّي التي تقاتل في مدينة حلب دخلت في معركة مفتوحة مع المليشيات التي قدمت من بلدتي كفريا والفوعة". وبحسب المصادر فإن "سبب الخلاف بدأ بعد قيام مليشيا برّي بطرد مدنيين من كفريا والفوعة بعد أن استوطنوا في أحد أحياء مدينة حلب، بسبب رفضها لإقامتهم، الأمر الذي دفع مليشيات كفريا والفوعة للتدخّل والتصدّي لها. وتطوّرت هذه المناوشات بين الطرفين، إلى أن تحوّلت إلى معارك عنيفة بدأت من حيي الصالحين والشيخ جسر الحج".

وقال مواطن يعيش في حي الصالحين لـ "العربي الجديد" إنه "استُخدمت في المعارك القذائف والرشاشات الثقيلة والرشاشات المثبّتة على عربات الدفع الرباعي، ما أدّى لحالة حظر تجوّل في عموم الحيين، فضلاً عن نزوح من بعض شوارع حي الصالحين".

في مرحلة لاحقة، امتدت المعارك إلى أحياء قاضي عسكر والقاطرجي والميسر، وباتت عموم أحياء حلب الشرقية أسيرة المعارك، التي انتهت بسيطرة مطلقة لمليشيا برّي. بعد هذه السيطرة، عمدت مليشيات كفريا والفوعة لاستقدام تعزيزات عسكرية ضخمة من بلدتي نبّل والزهراء في ريف حلب الشمالي، الأمر الذي أدّى لتجدّد المعارك بينهما ووقوع عشرات القتلى والجرحى من الطرفين. وتحدّث مدنيون من أحياء حلب الشرقية عن حالة الرعب والذعر التي سادت مناطقهم جراء هذه الاشتباكات. ولم يتمكّن النظام السوري من القيام بأي تحرّك إزاء عمليات الاقتتال هذه، في دليل على مدى ضعفه في مواجهة المليشيات التي شاركته المعارك في مدينة حلب. كذلك، في أواخر شهر يونيو/ حزيران 2017، دارت اشتباكات عنيفة بين مليشيات موالية للنظام وعناصر من فرع "الأمن العسكري" في حي الحمدانية جنوب غربي حلب، وعلى إثر هذه الاشتباكات قامت قوات النظام بتطويق الحي من جميع جهاته.

وبحسب مدنيين في المنطقة، فإن "الاشتباكات جاءت على خلفية مشادة كلامية بين العناصر تطوّرت إلى شتائم واندلعت على إثرها المعارك، فبدأت حرب شوارع وتبادل نيران وقنابل داخل الحي المكتظ بالسكّان، ما أسفر عن سقوط إصابات في صفوف المتحاربين ومدنيين كانوا موجودين هناك".

وقبل هذه الحادثة بأيام، قامت مليشيا "الدفاع الوطني" الموالية للنظام، باقتحام سكن الطالبات في مدينة حلب الجامعية، وفقاً لشكاوى نقلتها وسائل إعلام موالية. وقامت الفتيات بالتوجه إلى إدارة المدينة الجامعية والمراقبة لإخبارهم بما حصل ولكن إدارة المدينة والمراقبين لم يفعلوا أي شيء لردع العصابات. والسكن الجامعي الخاص بالفتيات كان قد تعرض قبل هذه الحادثة بأيام لمحاولة اقتحام من قبل مليشيا "لواء القدس الفلسطيني" تقاتل إلى جانب نظام بشار الأسد، التي أطلقت النار على الحرس الجامعي واعتقلتهم داخل فرع الحزب في الجامعة، بعد اقتحام السكن، مبرّرةً ذلك بأنه جاء "لضرورات أمنية"، ما أثار غضب الموالين في حلب.

كما أنه في منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي، تعرّضت ثلاث فتيات في مدينة حلب لحوادث خطف منفصلة، وفقاً لما أفادت مواقع إخبارية عدة بحلب وأكّده حقوقيون. الحالة الأولى كانت في حي الميدان حين خُطفت الفتاة شهد عابدين (16 عاماً) قرب جامع "أبو بكر" بواسطة سيارة أجرة يقودها مسلحون فيما لم يعرف مصير الفتاة، بينما كانت الضحية الثانية هي الفتاة سناء ذكرت (17 عاماً) واختُطفت من حي الأكرمية خلال عودتها إلى منزلها، فيما اختطفت فتاة ثالثة في حي سيف الدولة غرب مدينة حلب من قبل عناصر "اللجان الشعبية" المنتشرة في الحي.

حدث آخر وقع في حلب في يوليو/ تموز 2017، في أبشع تجلٍ لممارسات النظام والمليشيات التابعة له، فقد قتلت الأخيرة طفلاً في المدينة، لأنّه تقدّم إلى عناصرها وعرض عليهم أن يبيعهم العلكة. هزّت تلك الجريمة سكّان مدينة حلب، ما أدّى إلى ظهور حملة تضامن واسعة مع الطفل القتيل. بحسب التفاصيل التي حصل عليها "العربي الجديد" فإن طفلاً يدعى أحمد جاويش ويبلغ من العمر 12 عاماً، كان يبيع العلكة في حي الموكامبو الراقي في غرب مدينة حلب. وأفاد شهود عيان بأن الطفل كان يدور بين المارة ويطلب عوناً مالياً، واتجه نحو دورية شبيحة في الحي وبعد محاولته الإلحاح على بيعهم العلكة، قام أحدهم بإطلاق النار عليه وأرداه قتيلاً على الفور، ثم غادر العنصر المكان ببساطة. وأثارت الحادثة موجة غضب واسعة بين الموالين، إلى أن أعلن النظام أنّه تمكّن من تحديد هوية الشخص الذي أطلق النار متوعّداً بأن يقبض عليه.

وخرج محافظ حلب حينها قائلاً إن "الجريمة التي ارتكبها مستهترون وعابثون بأمن الوطن والمواطن بحق الطفل جاويش في حي الموكامبو أمام أحد المحال لن تمر دون عقاب"، موضحاً أنه "منذ اللحظات الأولى لارتكاب الجريمة، قامت جميع الجهات الأمنية والشرطية بالتقصي والبحث، إذ تمت معرفة مرتكبيها والبحث جار عنهم والقبض عليهم لينالوا عقابهم العادل".