وعبَرَ سعيّد الجولة الرئاسية الأولى وسط دهشة من قبل المتابعين، لكيفية مرور الأستاذ الجامعي المتقاعد إلى دور الإعادة، مغادراً كرسي التدريس في هدوء، ليقترب بثبات من كرسي رئاسة الجمهورية. وتحيط بسعيّد هالة من الغموض والمتناقضات، خصوصاً إثر صعوده الكبير والسريع مقارنة بزعماء أحزاب عريقة وماكينات انتخابية قوية وجيوش من الأنصار المتحزبين، لينثر حوله علامات استفهام كثيرة يطرحها الشارع التونسي المتعطّش لاكتشاف هوية الرئيس المحتمل، وبرنامجه وسبل تحقيق وعوده ومدى قدرته على ذلك، ومن يقف وراءه ويدعمه، ومن يقود حملته، وما هي ارتباطاته؟
وعبّر سعيّد، في حوار صحافي مع موقع تونسي محلي قبل أيام، عن استغرابه من مخاوف خصومه ودهشة معارضيه بسبب صعوده إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، قائلاً "لماذا هذا الشعور بالقلق؟ فرئيس الدولة هو الضامن لسيادة الدستور... وهنالك استمرارية الدولة بغضّ النظر عن الرئيس". وتكوّنت حول سعيّد صورة أستاذ القانون الوقور والمرجع الدستوري الموثوق، ورافقته صفة الخبير الدستوري طيلة سنوات الثورة التونسية، فكان محلّ احترام، على الرغم من انتمائه للمدرسة القانونية الشكلية. فقد كانت له قراءات متشددة للنصوص الدستورية، تجتمع فيها أحياناً الحقوق الكونية للإنسان بروح الشريعة الإسلامية، وتتداخل فيها المعاهدات والمواثيق الدولية بمقاصد الدين الإسلامي.
وجاء تجاذب الأضداد حول سعيّد أخيراً، ليزيد من غموض شخصيته، فتناقل التونسيون خلال حملته الانتخابية صوراً له تجمعه من جهة بشخصيات تنتمي إلى تيارات إسلامية متشددة، فيما تحيط به من جهة أخرى وجوه يسارية راديكالية. ولعل الأكثر غرابة أن يكون صديقاً لرضا بلحاج زعيم حزب "التحرير" المتشدّد من جهة، في حين يقود حملته رضا المكي المعروف باسم رضا لينين وهو قيادي شيوعي الفكر.
وتساند سعيّد تيارات وأنصار من اليسار الاجتماعي من جهة، ومن الإسلاميين المتشددين من جهة أخرى. كما اتفقت على دعمه أخيراً شخصيات وأحزاب مختلفة، من حركة "النهضة" وحزب "التيار الديمقراطي" وحزب "حراك تونس" و"ائتلاف الكرامة" وشخصيات إسلامية ويسارية وقومية وعروبية، حتى تشكّل حوله حزام غير متجانس، وفسيفساء متناقضة من التيارات والطيف الحزبي.
وحول ذلك، قال سعيّد، في حواره الصحافي الأخير: "لا تجمعني أي علاقة بأي تيار ديني متطرف، أنا مرشّح مستقلّ تنظيمياً وفكرياً، وحزبي هو الشعب التونسي، وليس لي أي هدف سوى كسب ثقة التونسيين". ويتهم معارضو سعيّد الأخير بالتشدد وبانتمائه للفكر السلفي. وقد علّق على ذلك بالقول: "هل أبدو سلفياً؟ أقتبس من (الكاتب والفيلسوف الفرنسي) فولتير و(الأديب الفرنسي) فيكتور هوغو، هل يمكنني أن أكون سلفياً؟ هل التحدّث إلى شخص ما يجعلك تنتمي إلى حركته السياسية؟".
في السياق، رأى المحلل السياسي التونسي محمد الغواري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "غموض شخصية سعيّد خدمه إلى حدّ ما، فالشخصيات السياسية المفضوحة والمكشوفة يسهل تحديد نقاط ضعفها من قبل خصومها". وأضاف "كما أنّ حالة التفاف شخصيات متناقضة حوله، والتي يعتبرها خصومه سكيزوفرينيا (فصام) سياسية، لا يجب قراءتها من الزاوية السلبية فحسب، بل يجب قراءتها من المنحى الإيجابي من حيث قدرة الرجل على تجميع الاختلافات. فميزة جمع الفرقاء والخصوم تحسب له، على غرار الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، الذي تمكّن من تجميع روافد متناقضة داخل حزب نداء تونس من أقصى اليسار إلى اليمين".
واعتبر الغواري أنّ "الأهم هو الوقوف على برنامج سعيّد المستقبلي، وتقدير مدى قدرته على تحقيق الوعود الانتخابية التي أطلقها، وتقييم مدى جديته ومعرفته بسبل إدارة الحكم وتسيير الدولة من منصب حساس". وظهرت خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عشرات الصفحات المساندة لسعيّد، والتي قادت حملة منقطعة النظير على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً على موقع "فيسبوك" الأكثر استخداماً من قبل الشباب التونسي، دعماً له. كما تشكّلت تنسيقية دعم ومساندة للمرشح المستقلّ، روّجت صوره واقتباسات من أقواله.
وفي السياق، أصدرت مجموعة تسمى "حركة شباب تونس" بياناً أخيراً، قالت فيه إنّ لها الفضل في نجاح قيس سعيّد، وإنّ لديها قوائم مستقلة ستقتحم بها مجلس نواب الشعب. غير أنّ محامي سعيّد، عبد القادر فتح الله، أكد في تصريح صحافي يوم السبت الماضي، أنّ هذه المنشورات والبيانات مخالفة للواقع. ولفت إلى أنّ سعيّد لا يستخدم "فيسبوك"، وليست لديه صفحات على هذا الموقع، وهو يستخدم فقط موقعاً إلكترونياً.
ولا تتوقّف تساؤلات التونسيين عن غموض شخصية سعيّد، بل وعن غموض المستقبل الذي ينتظرهم خلال العهدة الرئاسية الخامسة المقبلة. فأي قدرة وإمكانات لرئيس مستقلّ على تحقيق وعود انتخابية بحجم كبير؟ وكان سعيّد قدم برنامجاً انتخابياً ركّز فيه على "إعطاء دور محوري للمناطق، وتوزيع السُلطة على السلطات المحلية، عبر تعديل الدستور لضمان توزيع عادل للثروات". ووعد المرشّح نفسه بـ"إعادة بناءٍ سياسي وإداري جديد، حتّى تصل إرادة المواطن، فهو يخلق الثورة للاستفادة منها".
ويعلم خبير القانون الدستوري قيس سعيّد جيداً صلاحيات رئيس الجمهورية، باعتباره الذراع الأضعف في السلطة التنفيذية على الرغم من مكانته الاعتبارية. كما يعرف جيدا أنّه يصعب إلى حدود الاستحالة، إنجاز أي تعديل دستوري من دون امتلاك أغلبية دستورية معززة تقدّر بثلثي أعضاء البرلمان (145 عضواً من أصل 217). كذلك، فإنّ صلاحيته التشريعية باقتراح مشاريع، لا يمكن أن تمرّر من دون امتلاك أغلبية نواب مطلقة تقدّر بـ 109 نواب.
وفي السياق، اعتبر المحلل السياسي التونسي عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "في غياب حزام برلماني لقيس سعيّد، ستبقى وعوده بالمدينة الفاضلة، وتحقيق أهداف الثورة، مجرّد أمان وأضغاث أحلام، بعيداً عن حسن النوايا والظنون". ولفت إلى أنه "إذا صدق سعيّد في أنه ليس مدعوماً من النهضة أو من قوائم مستقلة، وبأنه سيبقى بعيداً عن الأحزاب والتحالفات، فإنه سيكون مقطّع الأجنحة، وبالتالي ستتحوّل وعوده إلى مبادرات تشريعية مدفونة لا ترى النور".
وأوضح المؤدب أنّ "أوّل امتحان سيواجهه الرئيس المقبل، حسب البند 89 من الدستور، هو تشكيل الحكومة، إذ عليه تكليف رئيس حكومة من كتلة الحزب صاحب الأغلبية البرلمانية". وأوضح أنّ "القرار لصاحب الأغلبية في اختيار رئيس الحكومة وفي تشكيلها وتكوين ائتلاف برلماني للحكم. كما يمكن للأغلبية البرلمانية ألا تمنح الثقة للحكومة، وترفض قرارات الرئيس ومشاريعه ومقترحاته، في وقت يكتفي الأخير المستقلّ بالمشاهدة والمتابعة ولا يملك سوى التنديد. كما يحدّق بالرئيس في مواجهة غول تحالف حزبي برلماني، إمكانيات سحب الثقة منه إذا لم يكن طيّعاً لينا، إذ يخوّل الدستور الأغلبية توجيه لائحة لوم للرئيس".
وأضاف المؤدب أنّ "لقيس سعيّد نقطة ضعف علاوة على عدم امتلاكه حزاماً حزبياً وسياسياً، إذ إنه لا يمتلك الحنكة السياسية والتجربة الكافية لإدارة الأزمات وإجراء المناورات والخروج من المطبات. وقد كشفت التجربة السابقة أنه على الرغم من حنكة السبسي، وتجربته الواسعة وتحالفه القوي مع النهضة وامتلاكه الكتلة الأكبر بعد الانتخابات، فإنّ الرجل وقف عاجزاً أمام العديد من الأزمات عندما وقف ضده رئيس الحكومة (يوسف الشاهد) والحزام البرلماني الأغلبي الداعم له". وتابع المؤدب "كما عجز الرئيس الراحل عن تمرير قوانين على غرار قانون المساواة وقانون المصالحة وقانون الطوارئ، وكذلك عجز أمام إرادة البرلمان عن إزاحة الشاهد، الذي انقلب عليه في أواخر فترة حكمه".
ويعلم سعيّد التحديات الدستورية التي تنتظره والمطبات السياسية التي تعترض ولايته في حال تم انتخابه. ومع ذلك يواصل خوض فرصته إلى النهاية، من أجل تغيير تونس، وهو يكرّر في مختلف تصريحاته قوله: "لستُ في حملة انتخابية لبيع أوهام والتزامات لن أحقّقها، بل أنا ملتزم بما أقول وأعد به، وأعلم جيداً ما أقول".