استحضار صور الحرب: عدّة عمل السلطة اللبنانية ضد الانتفاضة

28 نوفمبر 2019
اعتصام في عين الرمانة-الشياح أمس رفضاً للفتنة (حسين بيضون)
+ الخط -
منذ أيام، أصبح اللبنانيون على موعد مسائي مع التوتر المتنقل بين المناطق اللبنانية من شمال البلاد إلى جنوبها، والذي تُنقل وقائعه على الهواء مباشرة. اتخذ بعضه طابع الاعتداءات المباشرة من أنصار حزب الله وحركة أمل على محتجين سلميين، كما حصل في بيروت وبعلبك (شرق لبنان) وصور (جنوباً) وبكفيا (شرق بيروت)، فيما اتخذ بعضه الآخر طابع المواجهات الحزبية بعد تعمّد افتعال إشكالات في أكثر من منطقة. لكن القاسم المشترك بين كل ما يجري، هو وجود رغبة لدى تحالف السلطة في الشق المتبقي منه، أي حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر، لتصعيد محاولات إنهاء انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول، من خلال اللعب على وتر الفتنة واسترجاع مشاهد من زمن الحرب الأهلية واستحضار لغتها وإعادة فرز البلد ضمن ثنائية أو معادلة 8 آذار (حزب الله وحلفاؤه) و14 آذار (التحالف الذي تشكل عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005 وتلاشى حضوره على مدى السنوات الماضية). ويحدث كل ذلك في وقت لا يزال فيه الصراع على تشكيل الحكومة الجديدة في أوجّه، لا سيما بعد إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري عدم رغبته في ترؤسها، ورهنه منح الغطاء السياسي لرئيسها المقبل أو توزير ممثلين عنه فيها، بطبيعتها، وسط تراجع لخيار حكومة التكنوقراط (اختصاصيين) الذي كان يضعه كشرط أساسي لتأليف الحكومة.

وبرز أمس ما نقلته وسائل إعلام محلية عن رئيس الجمهورية ميشال عون، بطلبه من الجيش اتخاذ تدابير فورية لمنع التعديات على الأفراد والممتلكات، مؤكداً أنه "لن يسمح بتكرار ما حصل أمس (الثلاثاء) والعودة إلى ما عشناه في خلال حرب السنتين" (في إشارة إلى المرحلة الأولى من الحرب الأهلية التي امتدت بين إبريل/نيسان 1975 وأواخر أكتوبر/تشرين الأول 1976)، لافتاً إلى أن هذه الأمور ولّت إلى غير رجعة. ولفتت وسائل الإعلام إلى أنّه ستكون هناك تدابير جديدة بطلب من رئيس الجمهورية. أما في المسار السياسي، فأفادت وسائل إعلام محلية أمس، بأنه تم تأجيل موعد الاستشارات النيابية لتسمية شخصية لتشكيل الحكومة الجديدة، والتي كان من المتوقع أن تبدأ اليوم الخميس أو غداً، لـ48 ساعة.

وفي موقف لافت، أبدى رئيس مجلس النواب، رئيس حركة "أمل"، نبيه بري، استغرابه لعدم قيام الحكومة المستقيلة بواجباتها، مطالباً "بعودة أموال البنوك إلى لبنان والتي أرسلت للخارج وهي تقدّر بمليارات الدولارات". وأضاف، كما نُقل عنه خلال لقاء مع عدد من النواب أمس، أنه "لا يجوز ممارسة الديكتاتورية، لا في الشارع ولا في المؤسسات".
كما تحدث بري عن أحقية رئيس الجمهورية "بدعوة المجلس الأعلى للدفاع إلى الانعقاد، لأن الشأن الاجتماعي والاقتصادي خطير". يُذكر أن المجلس الأعلى الذي ينعقد برئاسة رئيس الجمهورية، مهمته اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعية، إضافة إلى الاهتمام بـ"التعبئة الدفاعية"، والتي تشمل الخدمة العسكرية والتعبئة التربوية وتعبئة النشاط الاقتصادي وغيرها.

ولم يتأخر رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، ليرد عبر مصدر مقرب منه، قال لموقع "المستقبل" إن "حكومة تصريف الأعمال تقوم بواجباتها، وبعيداً عن الضجيج الإعلامي ومحاولات استفزاز التحركات الشعبية وكأن شيئاً لم يكن في البلاد منذ 17 تشرين الأول". وأضاف: "ما هو أهم من كل ذلك عدم تعليق الوضع الحكومي بالهواء إلى ما لا نهاية وبدء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس وتشكيل حكومة جديدة".


جاء ذلك بعد إشكالات متنقلة شهدها ليل الثلاثاء-الأربعاء، كان أخطرها في منطقة التماس السابقة في الحرب، عند تقاطع منطقتي الشياح-عين الرمانة في بيروت. لا أحد يعرف كيف تم البدء بتداول فيديو يعود لسنوات يُظهر أشخاصاً من عين الرمانة (غالبية مسيحية) بينهم من يحمل أعلام حزب القوات اللبنانية يشتمون الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، لكن الجميع كان يمكنه مشاهدة كيف تجمّع أنصار حركة أمل وحزب الله من جهة، وسكان من عين الرمانة، جزء منهم حزبيون، في غضون دقائق معدودة، واندلعت اشتباكات بسيطة تخللها رمي قنابل مولوتوف، قبل أن يتحرك الجيش ليفصل بين الطرفين.

ولم تكن هذه المنطقة الوحيدة داخل بيروت التي شهدت توتراً في الأيام الماضية. ووظّف حزب الله وحركة أمل، حادثة مقتل شخصين على أوتوستراد الجية الذي يصل الجنوب ببيروت عند مفرق برجا (منطقة ذات غالبية سنّية) بعد اصطدام سائق السيارة بعوائق كانت تقطع الطريق، وعمد بوسائل متعددة إلى التحريض على المحتجين بوصفهم المسؤولين عن الحادث، وسط تغييب متعمد لما بيّنته المقاطع المصورة التي أظهرت عناصر من الجيش تقوم بقطع الطريق على بعد مئات الأمتار من مكان تواجد المحتجين، والسرعة الزائدة لسائق السيارة. وشكّلت الحادثة، التي أجمع اللبنانيون على إدانتها، الذريعة لإطلاق العنان لمواكب الدراجات النارية لأنصار حزب الله وحركة أمل، التي جابت الأحياء في بيروت وتعمّدت الدخول إلى شوارع محسوبة على تيار المستقبل، وإطلاق شعارات حزبية ومذهبية، ما تسبّب في وقوع إشكالات وإطلاق نار.
الذريعة نفسها استُخدمت لتجمّع أنصار الحزبين في صور والاعتداء على المحتجين في ساحة العلم وسط المدينة، وفي بعلبك، وظهر بوضوح أن حزب الله وحركة أمل عاجزان عن تقبّل فكرة وجود المئات من المحتجين في مناطق يصران على احتكار التمثيل فيها.

في موازاة ذلك، كان المشهد في بعض المناطق ذات التواجد المسيحي لا يقل توتراً. حاول التيار الوطني الحر تقليد عراضات حزب الله وحركة أمل، خصوصاً على طريق القصر الجمهوري في منطقة بعبدا، إذ نزل بعض مناصري التيار لمواجهة متظاهرين على الطريق، بحجة رفض شتم رئيس الجمهورية ميشال عون.
امتد مشهد التوتر إلى مناطق نفوذ الأحزاب التي تتهمها قوى "8 آذار" بأنها مشاركة في الاحتجاجات، فانتقل إلى بكفيا حيث معقل حزب الكتائب (برئاسة سامي الجميل)، عبر مسيرة سيارة لأنصار التيار الوطني الحر قوبلت من أنصار "الكتائب" باشتباك محدود، وإغلاق طريق البلدة، لينتهي المشهد بسقوط عدد من الجرحى.

وفي طرابلس، حيث لا شارع في مواجهة الشارع، تم افتعال توتر مشبوه ليل الثلاثاء بعد توجّه مجموعة من الشباب لإنزال علم للتيار الوطني الحر الذي يتزعمه وزير الخارجية، صهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، عن شقة مهجورة، وذلك بعدما وصلت أنباء عن محاصرة أنصار التيار لحافلات كانت تنقل محتجين شاركوا في الوقفة الاحتجاجية في بعبدا. وأدى استخدام الجيش الرصاص الحي إلى سقوط عشرات الجرحى.

هكذا بدا واضحاً كيف تعاملت أحزاب السلطة مع كل شارع على حدة وبطريقة مختلفة. إشكالات بين أنصار القوى التي تتحكّم في البلاد على مدار عقود في لعبة شد حبال حكومي بانتظار موعد الاستشارات النيابية وحسم اسم رئيس الحكومة الجديد. محاولات أخرى لترهيب الشارع المنتفض، في بيروت وصور وبعلبك، لكن اللعبة الأخطر كانت في برجا، حيث محاولة إعادة الفرز السني-الشيعي، وفي طرابلس التي شهدت استخداماً للقوة من قبل الجيش على نحو غير مسبوق. وأصدر الأخير بياناً أمس الأربعاء تحدث فيه عن توقيف وحدات الجيش 16 شخصاً على خلفية الحوادث التي شهدتها مناطق لبنانية عدة ليلة الثلاثاء. وأشار إلى أنه في طرابلس أصيب 33 عسكرياً، وعلى طريق صيدا القديمة بين منطقتي الشياح وعين الرمانة، أصيب عشرة عسكريين جراء التراشق بالحجارة بين عدد من الأشخاص. أما في بكفيا، وأثناء قيام وحدات الجيش بإعادة فتح الطريق، أصيب ثمانية عسكريين جراء التراشق بالحجارة.

وتعليقاً على هذه التطورات، قال ناشط سياسي مواكب للحراك، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "مراقبة المشهد العام لناحية محاولات الترهيب وبث المخاوف على السلم الأهلي توحي بأننا أمام رغبة لزرع الشقاق أو التهويل، لذلك سنجد أولاً أن هناك مشكلة ستقع في طرابلس لإعادة التذكير بما كان يجري في المدينة، بين باب التبانة وجبل محسن وغيرها من المشاكل الداخلية، أي الإيحاء بأن طرابلس ليست المدينة التي ظهرت خلال الثورة، بل هي مدينة القتال والاقتتال". وأضاف: "كذلك الأمر أمام مشهد صمود الناس بسلميتها في بيروت، فجاء التخويف من جهة الشياح-عين الرمانة لما تمثّله المنطقة من ذاكرة انطلاق الانقسام في هذا البلد، يضاف إلى هذا الأمر النزول إلى ساحة الشهداء وما تمثله من لحظة انقسام خلال الحرب". ولفت إلى أن "محاولات الترهيب في صور وبعلبك جاءت للضغط على بعض الناس واتهامهم بالوقوف في مواجهة وحدة الطائفة، وحتى الشعار الذي يتم إطلاقه "شيعة شيعة" هو للوصول إلى الحد الأقصى من التجرد من كافة المظلات الأخرى للحديث بشكل واضح عن أننا في محاولة للدفاع عن الطائفة".

مشاهد التوتر في الأيام الماضية تضمّنت العديد من الرسائل، بعضها للثورة وللناس، وبعضها في سياق لعبة داخلية بين الأحزاب، عادة ما تُستعمل للضغط، خصوصاً بعد أن سقطت التسوية الرئاسية التي أنتجت الحكومة الحالية، وفق شراكة بين أحزاب 14 و8 آذار برعاية حزب الله. وبدا أن الحزب يحاول ترويض هذه القوى وإعادتها إلى بيت الطاعة عبر إشكالات متنقلة مع المناطق، قبل الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة، والتي لا يريدها الحزب انعكاساً مباشراً لقوته، أو بمعنى آخر لا يريد تأليف حكومة من لون واحد تؤدي إلى محاصرته دولياً ومحاصرة البلاد. كما أن حزب الله أراد إسكات الشارع الثائر، فبدأ من مناطق بيئته الحاضنة، خصوصاً صور وبعلبك، بعد أن حاول التشكيك في وطنية المعتصمين، وصولاً إلى شيطنتهم واعتبار تحركهم طعنة للمقاومة، وخروجاً عن إجماع الطائفة.