الانتخابات الأوروبية في فرنسا: بين عنف الخطابات والاستنجاد بشخصيات مؤثرة

23 مايو 2019
تتصدر لائحتا ماكرون ولوبان استطلاعات الرأي (Getty)
+ الخط -
مع اقتراب الحسم يوم الأحد المقبل، أصبحت كل الضربات والمبالغات والاختلاقات، في فرنسا، عشية الانتخابات الأوروبية، صالحة أحياناً للتوظيف من طرف كافة اللوائح، من أجل تغيير وضع مستمر منذ أسابيع، يطبعه تربُّع زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان والرئيس إيمانويل ماكرون في الصدارة.

ويعرف الجميع أن "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، الذي يتصدر استطلاعات الرأي، يركز في حملاته على الهجرة، الموضوع الأثير لديه، حتى يعزّز أطروحته بأن الاتحاد الأوروبي يفضل المهاجرين على مواطنيه. وفي هذا الصدد، عادت لوبان لتكرار أسطوانتها غير الصحيحة، بأن المهاجر ما إن يصل إلى فرنسا حتى يحصل على بطاقة سحب مصرفية، فيها 641 يورو شهرياً، لكن الحقيقة هي أن الأمر يخص فقط طالبي اللجوء، وأن المبلغ لا يتجاوز 204 يورو.

ومن أجل تعزيز تصدرها، أيضاً، لا تتورع مارين لوبان، عن اعتبار هذه الانتخابات الأوروبية نوعاً من "الاستفتاء على سياسات ماكرون"، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي انخرط، بشكل كبير، في الحملة الانتخابية، وبالتالي، فهي ترى أنه يتعين عليه أن يستقيل، في حال عدم تحقيق الفوز. وتصر زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي على أن إيمانويل ماكرون تابعٌ لألمانيا، وأن الأوامر يقررها جان كلود يونكر، ويفرضها على الفرنسيين، خصوصاً في ما يتعلق بتمويل فرنسا لميزانية الاتحاد الأوروبي، وهي "أموال كان يجب أن تذهب إلى الفرنسيين".    



وتزداد مواقف لوبان حدة أيضاً تجاه حزب "الجمهوريون" اليميني، الذي يمر بظروف صعبة، والذي تغازل زعيمة اليمين المتطرف ناخبيه. وقد عاب رئيس "الجمهوريون" لوران فوكييز عليها استعمال عنف جدير بالدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وككل لقاء يجمع ممثلَي اليمين الفرنسي، انتهت مناظرة بينهما عبر قناة "فرانس 2" مساء أمس الأربعاء باتهامات متبادلة بالكذب.

وفي توجه آخر لقضم بعض ناخبي "فرنسا غير الخاضعة"، مدعومة باستطلاعات للرأي تثبت تعاطف بعض أنصار جان لوك ميلانشون معها، وبعدما دعا أحدهم للتصويت لصالحها من أجل التصدي لماكرون، لم تتورع لوبان عن وصف الحركة بأنها "فرنسا الإسلاموية"، غامزة من قناة رفض ميلانشون لخطابات الكراهية ضد المسلمين وغيرهم، وأيضاً من مواقفه الإنسانية لصالح المهاجرين، بعدما وقف مؤخراً دقيقة إجلالاً لضحاياهم الذين قضوا في البحر المتوسط.

وغير خافٍ أيضاً أن المعركة بين التنظيمين قوية من أجل إغواء بعض أصوات حركة "السترات الصفراء"، التي سانداها، كلٌ بطريقته.

من جهته، ومن أجل ألا تتصدر مارين لوبان المشهد السياسي، فتغطي على سياساته الأوروبية ورغبته في قيادة الاتحاد، لا يتوقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن إشهار لازِمَته، "التقدميون في مواجهة القوميين"، وهو شعار لائحته، وأيضاً ما دفعه لوضع لائحة "التجمع الوطني" ضمن قائمة "القوميين أعداء الاتحاد الأوروبي".

ولأنه يرى أن الخلاص أوروبيٌّ، فهو يَعتبر أن تحالف القوميين الأوروبيين خطر على الاتحاد الأوروبي. وكان ماكرون قد هاجم، بشكل مباشر، زعيمي اليمين في إيطاليا والمجر، ماتيو سالفيني وفيكتور أوربان. ثم لا يخفي انتقاده لما يرى فيه "تواطؤاً بين القوميين وبين مصالح أجنبية"، من أجل "تفكيك أوروبا".  

إلى ذلك، تعتبر وضعية يانيك جادو، الإيكولوجي، فريدة، فهو يرى، فجأة، كل خصومه السياسيين، وهم يتوشحون بالأخضر، ويدافعون عن البيئة. ورغم ابتهاجه بهذا التحول، إلا أنه ليس ساذجاً، وهو ما يجعله يعتبر خصومه، جميعاً، من اشتراكيين وليبراليين وجمهوريين، مجرد انتهازيين، أي "متحدين من أجل الخرسانة، ومن أجل تدمير الطبيعة، ومن أجل نسيان التنوع البيولوجي".

وبالرغم من أن جادو لا يهاجم بشكل مباشر رفاقه الإيكولوجيين، الذين استطاع كوهن بنديت إغواءهم، فانضموا لماكرون، لكنه يتساءل عن هذه اللائحة الرئاسية، التي تضم عناصر متصارعة من أنصار البيئة ومن خصومها، كما يتساءل عما يستطيع أن يفعله هؤلاء الإيكولوجيون، إذا عرفنا أن وزير البيئة في حكومة ماكرون، نيكولا هولو، نفسه، لم يستطع فعل شيء، فاستقال.  

ولأن "فرنسا غير الخاضعة" والإيكولوجيين يخوضون صراعاً لتحديد اللائحة التي تحل في المرتبة الرابعة (بعد لوائح "التجمع الوطني" و"الجمهورية إلى الأمام" و"الجمهوريون")، حتى يكون لها دورٌ قائدٌ في مشروع توحيد اليسار في أفق الانتخابات المقبلة، وخاصة البلدية في 2020، فالضربات مسموح بها، والخناجر مشرَعة، وهو ما عبّر عنه رئيس الحزب الإيكولوجي، دافيد كورمان، الذي اتهم رئيس "فرنسا غير الخاضعة" جان لوك ميلانشون بالكذب، حين تحدث الأخير عن احتمال مشاركة الإيكولوجيين في "تحالف رباعي"، يضم حزب ماكرون والاشتراكيين والجمهوريين والإيكولوجيين، في البرلمان الأوروبي، مؤكداً أن الإيكولوجيين سيضعون شروطهم أمام الرئيس المقبل للمفوضية.

وكان ميلانشون قد انتقد تصريحاً ليانيك جادو، في مارس/آذار الماضي، يَسخر فيه من محاولات عزل الإيكولوجيا في قوالب سياسية، يسارية أو يمينية، وهو ما فهم منه قائد "فرنسا غير الخاضعة" تأييداً من الإيكولوجيين للعودة إلى "إيكولوجيا السوق".

وإذا كان أنصار ميلانشون يأملون تجاوز "الجمهوريون"، وخلق مفاجأة جديدة، كما فعل ميلانشون في الدورة الأولى من الرئاسيات، إلا أن سقف التطلعات مرشح للانخفاض، ويبقى الهدف هو الوصول إلى نسبة برقمين، أي 10 في المائة.

وفي الوقت الذي أصيبت فيه اللائحة ببعض الابتلاءات، ومنها انسحاب قيادي سابق، هو توماس غينولي، بسبب شبهات تحرش جنسي، متهِّماً ميلانشون بالتسلط، ثم دعوة عضو آخر للتصويت لصالح لوبان، جاء بعض الفرَج من تأكيد جان مارك شيابا، والد الوزيرة مارلين شيابا، دعمه لحركة "فرنسا غير الخاضعة".    

من جهته، يضاعف لوران فوكييز، رئيس لائحة "الجمهوريون"، الذي رأى كثيراً من ناخبيه في معسكر ماكرون، وآخرين في معسكر مارين لوبان، من ضرباته للأخيرة، معتبراً أن إعلاناتها غير واقعية، بل وكاذبة، كما يعيب عليها تذبذب مواقفها من الاتحاد الأوروبي ومن اليورو. وفي ما خص ماكرون، فهو يرى بتدخلات ماكرون بالحملة الانتخابية، إفراغاً لها من محتواها، و"رغبة في خوض دورة ثالثة للانتخابات الرئاسية، عبر استراتيجية المبارزة مع مارين لوبان".

أما الاشتراكيون الذي يوجدون في وضعية لا يحسدون عليها، خاصة بعدما قبلوا المشاركة في لائحة لا يترأسها اشتراكي، وهو ما أغضب قياديين كثيرين، فقد خسروا كثيراً من قياداتهم وأطرهم، التي استطاع ماكرون استمالتها، وفي الجديد قرار سيغولين روايال، المرشحة السابقة للرئاسيات، التي اختارت لائحة "الجمهورية إلى الأمام".

وأصبح إعلان بعض القيادات الاشتراكية التاريخية دعمها للائحة، بمثابة المنّ والسلوى. هكذا يشعر الاشتراكيون، الذي تمنحهم استطلاعات الرأي نسبة 5 في المائة من الأصوات، وأحياناً أقل، بنوع من الطمأنينة والارتياح، بعدما حصلوا على دعم رئيس الحكومة الأسبق، ليونيل جوسبان، وأيضاً دعم القياديتين مارتين أوبري وكريستيان توبيرا، وأخيراً، دعم الرئيس السابق فرنسوا هولاند، الذي أمل في وصول نواب اشتراكيين إلى البرلمان، وهو أمل صعب، لأنه يستوجب حصول اللائحة على 5 في المائة من الأصوات.



إذن، تهيمن قائمتا "التجمع الوطني" و"الجمهورية إلى الأمام" على كل استطلاعات الرأي. وعلى الرغم من البلاء الحسن الذي عبرت عنه قوائم أخرى، كـ"الجمهوريون"، بفضل رئيس لائحة فيلسوف شاب ودينامي، و"فرنسا غير الخاضعة"، والإيكولوجيين، ثم قائمة "ساحة عامة - الحزب الاشتراكي"، في تجمعاتها الانتخابية ومناظراتها التلفزيونية، إلا أنه، وباعتراف هذه القوائم وغيرها من تلك المتصارعة في أسفل الهرم، فإن الحملة "خُطفت" من قبل المتزعمَين، اللذين أصبحا يُعيدان نوعاً من المعركة الرئاسية، أي نوعاً من المبارزة. 

وهنا، أصبح ما يسمى "التصويت المفيد" يغوي فرنسيين كثراً، بين من يرى أن مارين لوبان وحدها القادرة على هزيمة رئيس جمهورية لا يحظى بشعبية ويمارس الحكم بتسلط ويحتقر معارضيه، والذي لم ينجح بعدُ في إطفاء أزمة "السترات الصفراء"، وبين من يرى أن الرئيس إيمانويل ماكرون وحده، القادر على وقف اليمين المتطرف القومي والعنصري والشوفيني الزاحف، والمستعد لتحالفات مع قوى أجنبية، روسية وأميركية، من أجل تدمير البيت الأوروبي.      

فهل ستغير هذه التحولات الأخيرة في صدارة الترتيب، أم أن النتائج حُسمت، مسبقاً، بسبب مخاطر عزوف كبير عن التصويت، وأيضا بسبب تنبؤات كل استطلاعات الرأي؟   

المساهمون