ظلال كورونا على العدالة المصرية: حريات مقيدة وأعمال معطلة

13 ابريل 2020
مخاوف من انتشار فيروس كورونا في السجون(خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
لا تقتصر الأزمة التي تعيشها مصر بسبب فيروس كورونا المستجدّ على القطاع الصحي والأنشطة الاقتصادية والتعليمية، بل ضربت كذلك بشدة مرفق القضاء والنشاط القانوني بمختلف مؤسساته وقطاعاته، من المحاكم والنيابات، إلى الأعمال الإدارية وهيئات وزارة العدل المعاونة للقضاء، كالشهر العقاري والخبراء والطب الشرعي وغيرها، في ظلّ سياسة عامة متحفظة ومرتبكة في أحيان كثيرة، تثير غضب القضاة والمحامين على حدّ سواء، نتيجة غياب الرؤية في التعامل مع هذه الأزمة غير المسبوقة، خصوصاً بعد حالات اشتباه عدة بالإصابة بكورونا بين المحامين في الإسكندرية والدقهلية ودمياط خلال الأسبوعين الماضيين.

وبدأت وزارة العدل التعامل مع الأزمة متأخرةً، ففي منتصف مارس/آذار الماضي، أعلن كل من مجلس الدولة ومحكمة النقض وبعض محاكم الاستئناف، تعليق جلساتها خوفاً من انتشار الفيروس، مع استمرار العمل الإداري الخاص بالمحامين وسكرتارية الدوائر وحتى القضاة، من رفع القضايا وتقديم المستندات وإيداع التقارير وكذلك المداولات. ووقفت الوزارة، وهي القائمة على الشؤون الإدارية لجميع الهيئات القضائية والمحاكم الابتدائية، عاجزةً عن اتخاذ موقف واضح من مسألة استمرار العمل الإداري، على الرغم من تسببه بطبيعة الحال في حدوث تجمعات واحتكاكات بين المواطنين، على عكس اتجاه الحكومة للتباعد الاجتماعي، وتقليل التجمعات. فعلى هذا الأساس، تمّ اتخاذ قرارات مثل تعطيل العمل بالقطاعات الخدمية، خصوصاً بوزارة الداخلية مثل المرور والأوراق الثبوتية وجوازات السفر، ووقف العمل في الشهر العقاري التابع لوزارة العدل ذاتها.

وفي نهاية الأسبوع الثالث من مارس الماضي، قررت الوزارة تطبيق سياسة تقسيم الأيام بين الموظفين العاملين بجميع الهيئات القضائية والمحاكم الابتدائية، مما تسبب في ظاهرتين متناقضتين؛ الأولى استمرار العمل إدارياً وفتح أبواب الجهات أمام المحامين والمتقاضين، والثانية إبطاء العمل وتأخيره وتأجيل إنجاز مصالح المواطنين، إذ إنّ هذا العمل الإداري لم يترجم في أحوال كثيرة إلى عمل قضائي، لأن الجلسات ما زالت معلقة، ويتم تأجيلها إدارياً لمواعيد متباينة، حسب جدول العمل الخاص بكل دائرة، بما يتراوح بين أسبوعين وشهر.

ويقترب حالياً العام القضائي الحالي من نهايته في 30 يونيو/حزيران المقبل، ويجد القضاة أنفسهم أمام مهمة شبه مستحيلة لإنجاز القضايا المنظورة أمامهم. فمن المتبع دائماً أن تزيد أعداد الأحكام قبل فترة الإجازة القضائية التي تمتد من يوليو/تموز إلى سبتمبر/أيلول من كل عام. ومع استحالة اتخاذ تدابير وقائية ضدّ انتشار فيروس كورونا، فمن غير المتوقّع عودة المحاكم للانعقاد في المدى المنظور. أمّا المحامون، فمشاكلهم أكبر، وتتمثل في أنهم حالياً يعملون ويخاطرون بحياتهم نتيجة التواجد المستمر في المحاكم لمباشرة العمل الإداري، مقابل عدم إنجاز القضايا من الأصل وتعطيل إجراءاتها نتيجة تعليق الجلسات.

والحاصل أنّ الإجراءات التي اتبعتها وزارة العدل وضعت المرفق القضائي في حالة من الفصام، فالسنة القضائية سارية والمواعيد والآجال جارية، والعمل الإداري يسير بخطى بطيئة، نظراً إلى إنّ عمل الخبراء والأجهزة المعاونة لا يسير بانتظام نتيجة سياسة تقليل التواجد، بينما العمل القضائي نفسه متوقف، وكأن المشكلة الوحيدة كانت في انعقاد الجلسات، وليس في تواجد المحامين والمتقاضين بكثافة في مباني المحاكم مع الموظفين والقضاة.

تبدو الصورة مشابهة في المحاكم الصغيرة التي يرتادها عدد أكبر من المتقاضين حتى بدون محامين، مثل محاكم الأسرة والجنح ودوائر المنازعات الضريبية، فجميعها يعمل على الصعيد الإداري، ولا يصدر أحكاماً تُذكر. الاستثناء فقط في بعض الدوائر التي كانت أمامها أعداد ضئيلة من المنازعات ولا تتطلب حضور المتقاضين، إذ فضّل القضاة حسمها سريعاً، وإبلاغ الأحكام عن طريق سكرتارية الجلسات.

تسببت الأزمة في مشكلة أخرى، وهي فوات مواعيد رفع القضايا والطعون والاستئناف في بعض المحافظات والمراكز التي انتشر فيها الوباء، مما أعجز -أو أخاف- المحامين والمتقاضين من مباشرة إجراءات إيداع الدعاوى والطعون في المواعيد المقررة قانوناً، وهو ما دفع المحامين والقضاة لطرح عدد من المقترحات عبر مجموعاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي، منها أن يصدر قرار رسمي بإسقاط تلك المواعيد وعدم الاعتداد بها، وفتح الباب أمام مباشرة تلك الإجراءات، باعتبار أنّ الوباء حالة قوة قهرية يجب مراعاتها. لكن وزارة العدل لم تستجب حتى الآن لهذا المقترح.

وتمسّ هذه المقترحات مشكلة أخرى في الواقع العملي، هي عدم انتظام تنفيذ العديد من التعاقدات السارية بين الحكومة والمستثمرين من شركات وأشخاص، وكذلك بين الجهات الحكومية وبعضها، بسبب قرارات حظر التجوّل وتعطيل بعض الأعمال بالكامل. الأمر الذي يقتضي بحسب قاض بمحكمة النقض تحدث لـ"العربي الجديد"، تدخلاً رسمياً عاجلاً لضمان عدم المساس بحقوق الأطراف المختلفة، وعدم ترتّب أضرار عن هذا التعطيل، موضحاً أنّ ذلك يجب أن يتم بواسطة قرار رسمي يعتبر فترة التدابير الاحترازية استثنائية تعطل فيها تلك التعاقدات، حتى لا تنفجر المشكلة بعد عودة الأمور لطبيعتها في صورة آلاف المنازعات أمام المحاكم.

ويأخذ الوضع منحى مأساوياً يؤثر على حياة وحرية الأشخاص فيما يتعلق بعمل النيابات ومحاكم الجنايات، سواء في القضايا ذات البعد السياسي أو الوقائع الجنائية العادية. إذ أدت قرارات النيابة بتقليص ساعات العمل إلى الخامسة مساء، إلى إبطاء إجراءات التحقيق مع المتهمين الجدد، ووقف التحقيقات تقريباً مع المتهمين المحبوسين احتياطياً، والاكتفاء بالتجديد لهم أو إخلاء سبيلهم مع الإحالة للمحاكمة من دون حصولهم على فرصتهم الطبيعية في الدفاع، لا سيما في ظل القيود الموضوعة على تواجد المحامين داخل مقار النيابات، وقصر حضورهم على جلسات التجديد والتحقيق المحدودة والقصيرة، مما أثر بالسلب على إمكانية لقاء المحامين بموكليهم، فضلاً عن منع ذويهم من الحضور واللقاء بهم حتى في حالة الحبس الاحتياطي.

ويستمرّ حتى الآن عمل الدوائر الخاصة بالنظر في قرارات تجديد الحبس واستئناف النيابة على إخلاء السبيل، لكن بوتيرة ضعيفة أقلّ كثيراً من عدد الجلسات المعمول بها خلال الشهر الماضي، مما سمح بإبقاء المئات من المحبوسين احتياطياً في السجون في انتظار عقد جلسات المشورة الخاصة بهم.

وتقدّم عدد من المحامين المنتمين لتيارات سياسية مختلفة، وبعضهم من الموالين للسلطة، بمناشدات للنيابة العامة لتفعيل سلطتها الاستثنائية في إخلاء سبيل أكبر قدر من المحبوسين احتياطياً، بهدف لم شملهم مع أسرهم في هذا الوقت الصعب، خصوصاً مع استحالة سفرهم خارج البلاد، وسهولة تعقبهم في فترة حظر التجول الحالية، وتقليل الحاجة لعقد جلسات التحقيق وتجديد الحبس، وتقليص عدد المحبوسين داخل السجون، خوفاً من انتشار الوباء وصعوبة التعامل معه خلف الأسوار.

لكن النائب العام حمادة الصاوي، لم يستجب حتى الآن لتلك المناشدات. كما لم تستجب وزارة الداخلية لمطالبات أخرى بإتاحة وسائل الاتصال الهاتفية للمتهمين المحبوسين والسجناء المدانين، للتواصل مع ذويهم ومحاميهم، كحل بديل للتواصل المباشر الممنوع حالياً بسبب قرار منع الزيارة عن جميع السجون لمدة شهر، لم ينقض الأسبوع الثالث منه، ومن المرجح بحسب مصادر أمنية مده شهراً آخر، كتدبير احترازي، يوازي قراراً آخر بمنع العطلات لضباط وأمناء السجون في الوقت الحالي.

وفي هذا الشأن، سلكت النيابة العامة اتجاهاً بإخلاء السبيل السريع مع الإحالة للمحاكمة مباشرة، في نوعية واحدة من القضايا، هي وقائع خرق حظر التجول وفتح المحال التجارية والمقاهي والمطاعم في غير ساعات العمل المسموح بها، والتي تضبطها الشرطة في جميع المحافظات، وتقدرها المصادر الأمنية حتى الآن بنحو 1200 قضية جديدة. إذ يتم إخلاء سبيل المتهمين بهذه القضية مباشرة، خوفاً من حملهم لفيروس كورونا، والتسبب في عدوى بأقسام الحجز أو السجون، في ظل عدم تحديد مواعيد للمحاكمات، وتعطيل انعقاد دوائر الجنح.

يذكر أنّ حظر التجول المفروض حالياً في مصر لمنع انتشار الفيروس تمّ تخفيفه ليصبح من الثامنة مساء وحتى السادسة صباحاً، فيما تغلق جميع المحال التجارية من الخامسة مساء، وتغلق جميع المطاعم وأماكن التجمع والترفيه طوال اليوم، عدا الصيدليات ومحال البقالة والمستشفيات والمستوصفات.

لكن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أصدر قراراً استثنى فيه خدمات توصيل المنازل التي باتت تعمل طوال اليوم، وعدداً إضافياً من أنشطة النقل للسلع والبضائع والحاصلات الزراعية والأدوية والمستلزمات الطبية، حتى لا تشهد السوق قفزة استثنائية للأسعار، بعد رصد الحكومة ارتفاع سعر العديد من السلع الغذائية عقب إعلان قرار الحظر. ولم تصدر الحكومة حتى الآن أي قرار رسمي بشأن التعامل مع الأزمة على الصعيد القضائي والقانوني.

المساهمون