لم يكن قضاة مصر، سواء من عارضوا صامتين التعديلات الدستورية الأخيرة، أو من شاركوا في تمريرها بالتواطؤ ورغبة في توثيق الصلات مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، يتصورون أن تؤدي هذه التعديلات إلى مساواة كاملة بين الهيئات القضائية المصرية، التي يبلغ عمر بعضها أكثر من قرن من الزمن، وبين هيئة القضاء العسكري التي لم يتم الاعتراف بها كجهة إصدار أحكام إلا في دستور 2014، مع استمرار خضوع أحكامها وقراراتها في النهاية لتقديرات وأهواء وزير الدفاع ورئيس الجمهورية، فهما المختصان بالتصديق على كثير من أحكامها ويملكان إلغاءها أيضاً.
هذا التصور المستحيل أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، بعدما أرسل مجلس الوزراء رسمياً الخميس الماضي إلى الهيئات القضائية المختلفة، وعلى رأسها المحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة، مشروع قانون المجلس الأعلى لرؤساء الجهات والهيئات القضائية. وينص الدستور بعد تعديله على إنشاء المجلس الأعلى، برئاسة السيسي، وينوب عنه رئيس الهيئة الذي يفوضه، على أن يختص بالنظر في شروط تعيين أعضاء الجهات والهيئات القضائية وترقيتهم وتأديبهم، ويؤخذ رأيه في مشاريع القوانين المنظمة لشؤون هذه الجهات والهيئات، وتصدر قراراته بموافقة أغلبية أعضائه، على أن يكون من بينهم رئيس المجلس، أي سيكون للسيسي صوت راجح وحق نقض للقرارات المخالفة لاتجاهه.
المشروع تضمّن مفاجأة كبيرة، هي ضم رئيس هيئة القضاء العسكري إلى المجلس الأعلى الجديد، على الرغم من أن المادة 185 من الدستور، سواء قبل تعديلها أو بعده، لم تتطرق من قريب أو بعيد إلى القضاء العسكري، فهي تحدد إطارها في الجهات والهيئات القضائية العادية أو المدنية، والتي توجد حصراً في الفصول الثالثة والرابعة والخامسة من الدستور والخاصة بالسلطة القضائية بشكل عام. ويتكوّن الفصل الثالث من عدة أفرع، أولها أحكام عامة تخاطب جميع الجهات والهيئات القضائية المقصودة، وثانيها للنيابة العامة والقضاء متضمناً محكمة النقض ومحاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية والمتخصصة، وثالثها لقضاء مجلس الدولة، الذي يتضمن القضاء الإداري والهيئة الإدارية العليا وجمعية الفتوى والتشريع. ويخصص الفصل الرابع للمحكمة الدستورية العليا بصفتها جهة قضائية مستقلة قائمة بذاتها. ثم يأتي الفصل الخامس، ليفرد الأحكام الخاصة بهيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية فقط.
أما القضاء العسكري، فمن علامات ابتعاده وانفصاله عن تلك الهيئات، أن الدستور تحدث عنه باعتباره تابعاً للقوات المسلحة، في الفرع الثالث من الفصل الثامن الذي يختص بشكل عام بتحديد إطار عمل الجيش والشرطة فقط، وبعيداً عن وصفه في المادة 204 من الدستور بـ"جهة قضائية مستقلة". فقانون المحاكم العسكرية يزخر بالمواد التي تُرسخ تبعيتها المباشرة لوزير الدفاع، فالأحكام لا تنفذ إلا بعد التصديق عليها بواسطته، وهو يملك وقف الأحكام في بعض المناسبات وإعادتها للتحقيق مرة أخرى، فضلاً عن اختصاص رئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة بالتصديق على بعض الأحكام الصادرة ضد الضباط من الرتب الأعلى. وإلى جانب النصوص، فإن الممارسة العملية، خصوصاً في عهد السيسي، أثبتت أن القضاء العسكري أصبح بمثابة سلاح للانتقام من الخصوم واصطياد المعارضين، مستفيداً من النص الدستوري، الذي أسند إليه في 2014، محاكمة المدنيين في الجرائم المزعوم أنها تمثل اعتداءً على مجموعة واسعة من الشؤون العسكرية، من المنشآت والمعسكرات وحتى الأسرار والوثائق. وأصدر السيسي بناء على هذا النص قانون حماية المنشآت العامة، الذي أحال على أثره النائب العام الراحل هشام بركات مئات القضايا، المتهم فيها مدنيون إلى القضاء العسكري، بحجة أن هذا القانون يجعل كل المنشآت العامة في حكم المنشآت العسكرية، وما زال هذا القانون قائماً.
وبين عامي 2017 و2018 استخدم السيسي القضاء العسكري للتنكيل بثلاثة شخصيات، شكّلت في أوقات مختلفة خطراً على شعبيته وتماسك نظامه، هم رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، ورئيس أركان الجيش الأسبق سامي عنان، ورئيس الجهاز المركزي السابق هشام جنينة. وتم تهديد شفيق بتحريك قضيتين قديمتين ضده، تتضمنان اتهامات بالكسب غير المشروع واستغلال النفوذ وإهدار المال العام بوزارة الطيران بين عامي 2002 و2011، كان جهاز الكسب غير المشروع قد أحالهما إلى النيابة العسكرية في العام 2013 تنفيذاً لقانون صدر في عهد المجلس العسكري يجعل القضاء العسكري مختصاً بقضايا الفساد المالي للضباط السابقين بالقوات المسلحة. وصدر ضد عنان حكمان بالسجن 6 و4 سنوات، في قضيتي تزوير أوراقه الثبوتية وادعاء صفة مدني بدلاً من وظيفته كضابط متقاعد تحت الاستدعاء العسكري، ومخالفة القواعد العسكرية بإعلان نيته الترشح لرئاسة الجمهورية منافساً للسيسي مطلع العام الماضي. وتم توجيه اتهام رسمي إليه أفلت منه بكفالة جاوزت المليون جنيه في قضية كسب غير مشروع أمام النيابة العسكرية أيضاً. أما جنينة فيقضي حالياً عقوبة الحبس لخمس سنوات لاتهامه بأنه أذاع عمداً في الخارج إشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد، بأن أطلق تصريحات تضمّنت بعض الأمور المنسوبة "كذباً" للقوات المسلحة، وتتعلق بفترة ما بعد أحداث يناير/كانون الثاني 2011، وكان من شأن ذلك كله إضعاف هيبة أجهزة الدولة والنيل من اعتبارها.
وقالت مصادر قضائية، لـ"العربي الجديد"، إن ضم رئيس هيئة القضاء العسكري إلى المجلس الأعلى الجديد، من شأنه تشديد سيطرة السيسي على المجلس، واتخاذه تدابير تجعل من المستحيل اتفاق رؤساء الهيئات القضائية ضد قراراته، أو بما يخالف رؤاه الشخصية. فرئيس تلك الهيئة، وهو يُعيَّن من قبل السيسي ووزير دفاعه محمد زكي، سيكون له صوت معدود إلى جانب السيسي في كل الأمور المعروضة، وبذلك يكسب السيسي صوتاً جاهزاً إضافياً في مداولات المجلس الأعلى، إلى جانب أصوات رؤساء الهيئات الذين سيختارهم بنفسه وفقاً للدستور بعد تعديله. وسيضم المجلس بذلك 9 أعضاء برئاسة السيسي، وعضوية رؤساء المحكمة الدستورية ومحكمة النقض ومجلس الدولة والقضاء العسكري وقضايا الدولة والنيابة الإدارية ومحكمة استئناف القاهرة والنائب العام. علماً بأن السيسي يملك وفقاً للتعديل الدستوري حق نقض القرارات، ولا يجوز إصدار أي قرار إلا بموافقته، شريطة أن يكون معه 4 أصوات أخرى. وينصّ المشروع في مادته السابعة على أن المجلس الأعلى يختص بوضع الشروط الواجب توافرها بمن يعين بالهيئات المختلفة، على أساس الكفاءة والجدارة والأهلية، وبما يكفل تكافؤ الفرص وتحقيق المساواة. وهو ما يعني أن التعيينات الجديدة في الهيئات لن تبقى شأناً خاصاً بكل هيئة، وإنما يمكن للجميع، بمن في ذلك رئيس هيئة القضاء العسكري غير المعني بالأمر، التدخل وعرقلة قرارات التعيينات الجديدة، وهو ما ينبئ بصراعات عديدة ستلقي بظلالها على القضاء بأسره.
وأكدت النسخة النهائية من المشروع، ما نشرته "العربي الجديد" في 9 مايو/أيار الحالي، عن استئثار المجلس الأعلى الجديد بإقرار التعيينات والترقيات، لتكون موائمة بين كل الهيئات، الأمر الذي سيصب في مصلحة الهيئات التي بها عدد أكبر من القضاة وينخفض فيها دخل القاضي الواحد. لأن مجلس الدولة كان عمد في السنوات العشر الأخيرة إلى ترقية عدد كبير من القضاة الشبان، وخفض السن الدنيا لبعض الدرجات القضائية العليا مثل "نائب رئيس مجلس الدولة"، ليتم ترقية القضاة بشكل أسرع ويضمن حصولهم على أجور أكبر من أقرانهم بالهيئات الأخرى، وهو ما كان يزيد من الاحتياجات المالية السنوية للمجلس، خصوصاً أن المادة الثامنة من المشروع تنص على أن "يعمل المجلس على القضاء على التفاوت في مدد الترقية بين الجهات والهيئات القضائية خلال مدة لا تجاوز 10 سنوات". وسيلبي هذا التنظيم الجديد رغبة السيسي في خفض الميزانيات المخصصة للهيئات القضائية ومجلس الدولة تحديداً، الأمر الذي كان يحاول تطبيقه منذ 2014. وبالتالي سيتم إسناد عملية توزيع المخصصات المالية لكل هيئة إلى المجلس الأعلى، بناءً على الترقيات التي يحدد هو شروطها، مع حرمان كل هيئة من رفاهية توزيع فائض الميزانيات على أعضائها في صورة مكافآت أو بدلات كما كان يحدث في السنوات الست الماضية، وذلك نظراً لتملص القضاة المستمر من القيود المالية التي وضعها السيسي والممثلة في قانون الحد الأقصى للأجور وخفض جهات ندب القضاة للعمل كمستشارين للحكومة وتطبيق الدفع والتحصيل الإلكتروني، واستمرار محاولتهم إخفاء مخصصاتهم عن الرقابة. وهو ما كان أيضاً تحت بصر واضعي المشروع عند النص في المادة التاسعة، على أن "يضع المجلس الأعلى قواعد ندب أعضاء الجهات والهيئات القضائية"، ما يعني أن هذه القواعد ستطبق على جميع الهيئات ولن تعود كل هيئة مختصة بشؤون أعضائها في هذا الشأن.