مشهد سياسي تونسي جديد: هل انتهت مرحلة حكومة الوحدة؟

18 نوفمبر 2017
البرلمان التونسي منعقداً (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
يتسم المشهد الحزبي في تونس بكثير من التخفّي والمواربة، قد يصل أحياناً إلى درجة عالية من "الجُبن السياسي" نتيجة الخوف من خطوات قد تؤدي إلى خسارات مهمة قبل الاستحقاقات المقبلة، وهو ما أدى إلى مشهد ضبابي لا يعرف الناخب فيه من هو ضد الحكومة ومن معها، ومن هو في الائتلاف ومن خارجه، ومن هو مع رئيس الحكومة ومن يساند القصر الرئاسي، وإن كانا متناغمين أم متنافسين، ومن هو حداثي ومن هو رجعي، ومن هو في الوسط أو في اليمين. ولا يسلم من هذا الوضع غير "حراك" المرزوقي و"الجبهة الشعبية" اللذين اختارا منذ البداية وبوضوح معارضة كل الباقين، على رغم أن هذين التيارين أيضاً لا يتوقفان عن تبادل الاتهامات والتنازع حول منطقة المعارضة، حتى في حالة الاتفاق على الموقف نفسه من قضايا وملفات سياسية.


ويعتبر كثيرون أن هذا الوضع طبيعيٌّ في مراحل الانتقال السياسي ما بعد الثورات والهزات الاجتماعية، ولكن كثراً من التونسيين يَرَوْن في ذلك نوعاً من الانتهازية السياسية وعدم وضوح الرؤيا لدى أحزاب سياسية تريد أن تكون في الحكم وفي المعارضة في الوقت نفسه، ظناً منها أنها قادرة على الوقوف بين منزلتين والاستفادة من الوضعيتين والإبقاء على هامش المناورة ما يمكّنها من القفز سريعاً من هذا المركب أو ذاك إذا أحسّت باقتراب غرقه.

وينسحب هذا التوصيف بالذات على أحزاب مهمة، مثل "مشروع تونس" و"آفاق تونس" و"الجمهوري" و"الاتحاد الوطني الحر". ويشمل أيضاً نواباً وشخصياتٍ بارزة من نداء تونس لم تحسم موقفها بوضوح من خيار التحالف مع النهضة، وبقيت متنقلة من هذا الحزب إلى ذاك ومن كتلة إلى أخرى، وهو ما أصاب المتابعين بصداع حقيقي نتيجة هذه "الكثافة المرورية السياسية" أو "السياحة الحزبية" كما يصفها البعض.

لكن يبدو أن المسألة آخذة في التراجع شيئاً فشيئاً مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية ومع اشتداد المنافسة بين أكثر من قطب سياسي، وحول رهانات بدأت تتضح خيوطها، ومع الخلافات التي اشتدت بين الأحزاب السياسية أيضاً. فقد أطلق "نداء تونس" قذائفه المباشرة صوب الحزب الجمهوري، بسبب وجوده في الحكومة وفي وثيقة قرطاج، في مقابل مواقفه المعارضة باستمرار. وشبّت خلافات عميقة مع حزب آفاق تونس، نتيجة مواقفه المتضاربة بين دعم الحكومة ومعارضتها، وإصراره على انتقاد تحالف "النهضة" و"النداء"، وكذلك مع حزب "مشروع تونس" (سليل النداء) الذي يريد أن يستحوذ على مشروع الحزب الأم وعلى مكوناته أيضاً وينازعه المنطقة السياسية نفسها، ويعمل على استعادة خطابه قبل انتخابات 2014.

هذه الصراعات بدأت تقود إلى تفكيك المشهد وإعادة تشكيله من جديد، وكان لا بدّ أن تؤدي في النهاية إلى توضيحه تدريجياً. وعلى رغم اختفاء الجميع ورفضهم توصيف ما يحدث، إلا أنّ الأمور باتت واضحة الآن، ولم يبق إلا الإعلان رسمياً عن انهيار وثيقة قرطاج وانتهاء مرحلة واقتراب الإعلان عن مرحلة جديدة. وخلال الأسبوع الماضي، تمّ الإعلان رسمياً عن تكوين "جبهة برلمانية وسطية تقدمية" تضم 45 نائباً من كتلة الحرة لحركة مشروع تونس وكتلة آفاق تونس والكتلة الوطنية ونواب من حركة نداء تونس ومستقلين، وتم أيضاً الإثنين الماضي الإعلان عن جبهة ثلاثية جديدة تتكوّن من النهضة والنداء والوطني الحر، وكلها مكونات وقّعت على وثيقة قرطاج، بما يعني ولادة معسكرين جديدين من رحم الائتلاف نفسه، وهو ما سيقود بوضوح إلى انتهاء هذه الوثيقة وهذه المرحلة والتفكير بما يليها.

لكن الغريب سياسياً، هو أنّ كل طرف يدعي دعم الحكومة وأنه يشكّل حزامها الداعم، بما يحيل إلى وجود صراع ما حول هذه الحكومة أو حول رئيسها، وسط تسريبات متواترة وإيحاءات بوجود صراع بين قصري قرطاج (الرئاسة) والقصبة (الحكومة)، وقرب انتهاء صلاحية حكومة الوحدة الوطنية، ومرحلتها السياسية.

وخرج الخلاف بين المعسكريْن إلى العلن بوضوح تام، واعتبر النائب عن "نداء تونس" منجي الحرباوي، أن الجبهة التقدمية الجديدة "بدعة سياسية لم يعرف لها مثيل في برلمانات العالم وتصب في خانة الإفلاس السياسي لأطراف لم تستوعب الدرس من خيباتها الماضية"، في حين اعتبرها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، "خطوة عدمية تمثّل استمراراً لمنطق الإقصاء والاستئصال، ولن تضيف شيئاً للتونسيين"، مؤكداً أنّ "هذه الجبهة هي ضدّ النهضة والضد لا يصنع مشروعاً، بل يصنع عدماً".

من جانبه، اعتبر رئيس الاتحاد الوطني الحر سليم الرياحي أن هذه الجبهة البرلمانية تجهّز نفسها لتصبح كتلة وتلتحق بالمعارضة وتستعد لانتخابات 2019، مؤكداً في تصريح إذاعي أنه لا يمكن بناء دولة بهذه الطريقة، مشدداً على ضرورة دعم الحكومة الحالية لتواصل مهامها إلى حين إجراء الانتخابات المقبلة.

ولكن "آفاق تونس" يعتبر في المقابل أن عودة "الوطني الحر" الذي سبق له الإعلان عن تمزيق وثيقة قرطاج والانضمام للمعارضة، "تمثّل أيضاً شكلاً من أشكال النفاق السياسي"، معتبراً أنّ "مكان نداء تونس الطبيعي هو الجبهة الوسطية وليس التحالف مع النهضة،" أي مشهد ما قبل 2014.

ويشدد "آفاق تونس" على أن خلافه مع المتحالفين سابقاً، جاء بسبب ما يسميه "المشروع المجتمعي"، ما يشير إلى أن الخلاف في جوهره هو مع النهضة، وهو أيضاً موقف مشروع تونس نفسه الذي تكوّن أساساً من ندائيِّين معارضين للتحالف مع النهضة، ما يعني أنها جوهر هذا الصراع وموضوعه الرئيسي، وأنها ستكون في مرمى الجميع حين يشتد التنافس.

ولكن الإعلان عن الجبهة الثلاثية، الإثنين، جاء أيضاً بصيغ منمّقة ومفردات فضفاضة وحسابات واضحة، فهي تنسيقية وحزام داعم لحكومة الوحدة الوطنية وليست ضدّ أحد ومهمتها تنسيق المواقف في الميزانية وهيئة الانتخابات، و"الوطني الحر" سيعود إلى الأرضيّة السياسية لوثيقة قرطاج… وغيرها من التعابير السياسية التي ملّها التونسيون، وهم يعرفون حقيقتها.

ويبدو أننا أمام تشكيل جبهة محافظين في مقابل جبهة أخرى، يتنازع جميعهم منطقة الوسط التي تعتبر الخزّان الانتخابي الحقيقي في تونس، وهو ما ترغب فيه أحزاب أخرى في الوقت نفسه.

وأمام هذا الخطاب السياسي المتردّد، شاملاً رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، يطرح متابعون السؤال التالي: متى سيُعلن عن نهاية حكومة الشاهد وولادة الحكومة الجديدة، وهل يسمح الوضع الحالي بذلك أم لا؟