زادت تركيا من وتيرة تحركاتها العسكرية، استباقاً لإطلاق عملية شرق الفرات، حيث تتجه الأوضاع إلى صدام عسكري مباشر بين الجيش التركي المتأهب وبين "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي تهدد بمواجهة مفتوحة في حال نفّذ الأتراك تهديدهم بالتدخل العسكري المباشر، كما حدث مطلع العام الماضي في منطقة عفرين شمال غربي حلب.
ومن الواضح أن أنقرة قررت حسم الموقف في شمال شرقي سورية، والقضاء على القوات التي تدعمها أميركا، حيث يتخوف الأتراك من قيام إقليم ذي صبغة كردية على حدودهم في حال تساهلهم، خصوصاً أن الجانب الأميركي غير جدّي بما يكفي لطمأنة الأتراك وتبديد مخاوفهم. ونقلت وكالة "الأناضول" عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قوله، في ختام الاجتماع التشاوري لحزب العدالة والتنمية أمس الأحد، إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصدر تعليماته بسحب قوات بلاده من شرق الفرات السورية، "لكن من هم بجانبه لم يعملوا بهذه التعليمات حتى الآن". في هذا الوقت، حذّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تركيا من الهجوم على الأراضي السورية، معتبراً أنه "لا يمكن من خلال ذلك تحقيق الأمن لتركيا"، داعياً إياها إلى احترام "سيادة ووحدة الأراضي السورية". واعتبر أن "السبيل الوحيد لحفظ أمن تركيا هو تواجد الحكومة المركزية السورية في المناطق الحدودية". واتهم واشنطن بدعم مجموعة من أكراد سورية و"استغلالهم"، معتبراً ذلك "قضية صغيرة، وأن الإخوة الأكراد في سورية يعارضون حتماً هذا الأمر".
وقالت مصادر في وزارة الخارجية التركية، لـ"العربي الجديد"، إن "الأمور ساخنة جداً، ولن تكون هناك عملية من دون إعلام الجانب الأميركي، وإن جرت عملية ستكون محدودة والدخول إلى منطقة محدودة (هي ريف تل أبيض) بهدف رفع سقف التفاوض مع واشنطن وتحقيق مكاسب. وتوحيد الجيش الوطني يأتي في إطار مشاريع شرق الفرات، بالإضافة إلى مشاريع تركيا في إدلب، بإخضاعها وتحويلها إلى مناطق مشابهة لغصن الزيتون ودرع الفرات. وبالتالي، فإن أي عملية شرق الفرات لن تكون واسعة وكبيرة، بل ستكون محدودة".
وفي حين يواصل الجيش التركي إرسال تعزيزات إلى المناطق الحدودية مع سورية، قالت مصادر ميدانية تركية "في أي لحظة قد تنطلق عمليات التوغل، وهي تهدف إلى بعث رسالة واضحة إلى الجانب الأميركي، الذي قد يرضخ للمطالب التركية من العملية. وحالياً المنطقة التي تم الاستعداد لها هي في ريف تل أبيض، وهناك استنفار في المنطقة بانتظار أن تُثمر مفاوضات اللحظة الأخيرة مع أميركا عن تحقيق المطالب التركية بالدخول للمنطقة، وأن يكون لتركيا دور في السيطرة عليها. وبالتالي، المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن توافق أميركا على أن تسيطر مع تركيا على المنطقة وسحب الوحدات الكردية منها، أو أن تبدأ أنقرة بشكل حذر عملية برية تراعي فيها عدم الاصطدام مع الجانب الأميركي".
ويواصل الجيش التركي حشد قوات على الحدود السورية استعداداً، كما يبدو، لعمل عسكري في منطقة شرق نهر الفرات، حيث وصلت تعزيزات عسكرية جديدة، خلال اليومين الماضيين، إلى الوحدات المتمركزة في ولاية شانلي أورفة، وفق وكالة "الأناضول" التركية. وكان أردوغان رفع، السبت الماضي، من وتيرة التهديد بشن عمل عسكري ضد "قسد"، التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، مؤكداً أنه "أجرينا استعداداتنا وأكملنا خطة العملية العسكرية في شرق الفرات، وأصدرنا التعليمات اللازمة بخصوص ذلك"، لافتاً إلى استعجال بلاده بشأن تنفيذ العملية، بقوله إنها "قريبة إلى حدّ يمكن القول إنها اليوم أو غداً". وأضاف "سنقوم بتنفيذ العملية من البر والجو".
وأكدت صفحة "الرقة تذبح بصمت"، على موقع "فيسبوك"، أن الطيران التركي نفّذ غارة جوية على "اللواء 93" قرب بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي، والذي تتخذه "قسد" مركزاً عسكرياً لها. وذكرت "الأناضول" أن "وحدات حماية الشعب" أرسلت، في وقت متأخر من ليل السبت، تعزيزات عسكرية إلى مناطق سيطرتها على الحدود مع تركيا. ونقلت عن مصادر قولها إن "رتلين مكونين من 100 عربة عسكرية من قوات المنظمة توجها إلى مدينتي تل أبيض ورأس العين الحدوديتين شمالي الرقة السورية"، مشيرة إلى أن الرتل الأول انطلق من قاعدة الجلبية شمالي الرقة، وهي واحدة من أكبر القواعد الأميركية في سورية، فيما جاء الرتل الثاني من الحسكة والقامشلي". وأشارت المصادر إلى "أن الرتلين ضمّا عناصر من المقاتلين العرب كانت الوحدات الكردية جنّدتهم إجبارياً للقتال في صفوفها"، مشيرة إلى أن "الرتل كان يحمل أسلحة متوسطة وقناصة وطواقم صناعة المتفجرات، وعربات محملة برشاشات ثقيلة".
وقالت مصادر محلية في مدينة تل أبيض، لـ"العربي الجديد"، إن الهدوء الحذر يسود المنطقة، مشيرة إلى أن عدداً كبيراً من قادة الوحدات الكردية انتقلوا إلى مقرات في مدينة الرقة ومحيطها، في خطوة تؤكد تخوفهم من دخول تركي مفاجئ إلى المنطقة. وفي السياق، أكد القيادي في الجيش السوري الحر، مصطفى سيجري، أن "الجيش الوطني" التابع للمعارضة السورية "سيكون رأس الحربة في العملية العسكرية المرتقبة"، رافضاً الخوض في تفاصيل هذه العملية في الوقت الراهن. كما أكد الناطق الرسمي باسم "الجيش الوطني"، الرائد يوسف الحمود، في تصريحات صحافية أمس الأحد، أن "نحو 14 ألف مقاتل من الجيش الوطني سيشاركون في المعركة المرتقبة" في شرقي الفرات، مشيراً إلى أن "الجيش الوطني لديه الجاهزية الكاملة في دفع أعداد جديدة إذا تطلّب الأمر"، موضحاً أن "الهدف من مشاركة الجيش الوطني في المعركة هو عودة النازحين، سواء من الداخل السوري أو الخارج، إلى منازلهم وكف إرهاب المليشيات عن أهالي المنطقة".
وفي المقابل، من الواضح أن "قسد" بدأت تستعد للسيناريو الأسوأ، وهو قيام الجيش التركي و"الجيش الوطني" التابع للمعارضة السورية بعمل عسكري في عمق منطقة شرقي الفرات التي تسيطر على جلها بعد طردها تنظيم "داعش" منها. وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن "قوات سورية الديمقراطية والمجالس العسكرية شرق الفرات تواصل استنفارها في المنطقة تحسباً لبدء القوات التركية عملية عسكرية في أي لحظة". ووفق المرصد، فإنه "في حال قررت تركيا بدء المعركة من منطقة ما على الحدود، سيكون الرد عليها في كامل الشريط الحدودي الممتد من الضفة الغربية لنهر دجلة وصولاً إلى شرق الفرات"، مشيراً إلى أن فصائل المعارضة السورية تستعد للمشاركة في العملية المنتظرة التي أكدت مصادر مطلعة أنها تحمل اسم "نبع السلام".
ويبدو أن الجانب الأميركي يعارض أي عمل عسكري من طرف واحد في منطقة شرقي الفرات. وقال المتحدث باسم البنتاغون شون روبرتسون، السبت الماضي، إن "الولايات المتحدة تركز على إنجاح عمل آلية الأمان في شمال سورية"، معتبراً أن ذلك "هو أفضل طريق للأمان لنا جميعاً". واعتبر أن "أي عملية عسكرية غير منسقة من قبل تركيا ستكون مصدر قلق بالغ، لأنها ستقوض مصلحتنا المشتركة المتمثلة في شمال شرق سورية الآمنة، والهزيمة المستمرة لداعش". وقال "سنستمر في تنفيذ الخطة في مراحل محددة وبطريقة منسقة وتعاونية".
وفي حديث مع "العربي الجديد"، أكد القيادي في "قوات سورية الديمقراطية" شرفان درويش أن "عملنا مستمر" مع الجانب الأميركي "كما المعتاد"، مضيفاً "لم يتغير شيء على الأرض. عملنا وتنسيقنا مستمر كما هو". من جانبها، جددت "الإدارة الذاتية" الكردية التلويح بورقة "داعش" في وجه التهديد التركي الذي يبدو هذه المرة جدياً في ظل المماطلة الأميركية في إنجاز المنطقة الآمنة. وقالت "الإدارة الكردية"، في بيان، إن "التهديدات التركية المستمرة خطيرة وتهدد أمن المنطقة واستقرارها، خصوصاً المناطق التي تحررت من داعش"، مشيرة إلى التزامها "بكافة بنود الآلية الأمنية التي تم الاتفاق عليها مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك لسحب المبررات لأي احتلال تركي جديد، كما حصل في عفرين وجرابلس وإعزاز والباب". وتابعت "أي هجوم تركي جديد سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وسيخدم الإرهاب وسيكون فرصة حقيقية لداعش لكي يعيد تنظيم نفسه من جديد، وبالتالي السيطرة على مساحات واسعة من سورية، وكذلك سيكون فرصة لمعتقلي داعش وعائلاتهم للفرار، ما سيشكل خطراً على المنطقة والعالم".
ومن المتوقع في حال قرر الجيش التركي الدخول إلى المنطقة أن تكون المرحلة محدودة ومقتصرة على جزء من الحدود السورية التركية شرقي الفرات والبالغة نحو 422 كيلومتراً. كما أنه من المرجح أن تشمل المرحلة الأولى من التدخل المنطقة ما بين مدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي ومدينة رأس العين في ريف الحسكة، على طول يصل إلى 80 كيلومتراً، وبعمق حده الأدنى 5 كيلومترات. وقال مصدر مطلع في "قسد"، لـ"العربي الجديد"، إن التدخل التركي "في حال حدوثه سيكون محدوداً وبرضى الجانب الأميركي وبالتنسيق معه"، مشيراً إلى أن التدخل التركي لن يشمل كل المنطقة، مضيفاً "الجانب الأميركي لا يريد خلط الأوراق وتعقيد الموقف".
ومن المرجح أن يتجنب الأتراك الدخول إلى مدن سورية يشكل الأكراد نسبة مرتفعة من سكانها، ولها رمزية لديهم، خصوصاً عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي الشرقي، ومدينة القامشلي في ريف الحسكة. ومن الواضح أن اختيار الأتراك لمدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي منطلقاً للعملية يأتي كونها ذات غالبية عربية "تعرّض سكانها للإقصاء على يد الوحدات الكردية منذ سيطرتها عليها منتصف عام 2015 عقب طرد تنظيم داعش منها"، وفق مصدر محلي. كما يضم ريف تل أبيض عدداً من القرى ذات الغالبية التركمانية، والتي تعرضت للتهجير على يد الوحدات الكردية في 2015، ولجأ معظمهم إلى تركيا. ويوضح المصدر أن الوجود الكردي في مدينة تل أبيض وريفها "محدود"، مشيراً إلى أنه داخل المدينة هناك حي واحد للسوريين الأكراد، مقدراً نسبتهم بنحو 5 في المائة من عدد سكان المدينة، موضحاً أن هناك عدة قرى في ريف المدينة الغربي تضم أكراداً، منها اليابسة وتل أخضر وتل أحمر. وأشار إلى أن التركمان ينتشرون في قريتي حمام التركمان، والدادات في ريف تل أبيض الجنوبي الشرقي، بالإضافة إلى وجود محدود لهم داخل مدينة تل أبيض.