ورصدت "العربي الجديد" وجود كمائن متحركة تابعة لمباحث القاهرة ومباحث الجيزة في شوارع العاصمة التي تجتذب يومياً أكثر من 10 ملايين مصري يتوافدون من المحافظات الأخرى. وعمد ضباط الكمائن إلى استوقاف الشباب، وسؤالهم عما إذا كانوا قد صوتوا في الاستفتاء أم لا. وفي حالة عدم تصويتهم، أو تصويتهم مع اختفاء الحبر الفسفوري عن أصابعهم، يتم إجبارهم على تسليم بطاقاتهم الشخصية، والركوب في عربات ميكروباص تم استئجار أصحابها على مدار اليوم، لتتوجه بالناخبين إلى أقرب لجنة فرعية للتصويت إجبارياً، ليتم بعدها إعادة البطاقات للمواطنين.
وتطابقت هذه الخطوات في ست روايات أفاد بها شبان من محافظات أسيوط وأسوان والبحيرة والشرقية والإسكندرية والوادي الجديد، إذ تعرضوا لمثل هذا الموقف في مناطق عابدين والموسكي والزمالك والدقي والعجوزة وفيصل في العاصمة. وقال أربعة من الشبان الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، إنهم صوتوا بـ"نعم" نظراً لأن التصويت كان يتم بشكل جماعي في حضور أحد الضباط المصاحبين لهم بالزي المدني داخل اللجنة وأمام القاضي والموظفين، مشيرين إلى أنهم تلقوا تحذيرات من استخدام الهاتف في التصوير أو التسجيل الصوتي لما يحدث. أما الشابان الآخران، فقط أكدا أنهما دخلا اللجنة بشكل منفرد وانتظرهما الضابطان المصاحبان لهما في الخارج برفقة الآخرين، وتمكنا من التصويت بـ"لا".
وفي السياق ذاته، قال ثلاثة من القضاة المشرفين على لجان فرعية في منطقة أكتوبر والهرم بالجيزة والجمالية بالقاهرة لـ"العربي الجديد"، إنّ ضباط الأمن الوطني أفصحوا بجرأة في مطلع اليوم الثالث من الاستفتاء، أثناء فتح اللجان، عن أنهم يرغبون في تخصيص لجنة أو أكثر داخل كل مدرسة أو مجمع انتخابي لتكون "مساحة آمنة" لتدفق الناخبين الوافدين الذين ينتمون لمحافظات أخرى. وأكّد القضاة الثلاثة الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، (اثنان منهم ينتميان للقضاء العادي والثالث لمجلس الدولة) أنهم رفضوا التعامل بهذه الطريقة، لكنهم أشاروا إلى أنّ زملاء لهم، بعضهم بمحاكم الاستئناف والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، في المجمعات الانتخابية نفسها، قبلوا أن يفتحوا لجانهم لتدفق العشرات من الناخبين باعتبارهم وافدين، بما في ذلك بعض من سبق لهم التصويت، وبعض من ينتمون للمحافظة نفسها، أي أنهم من المفترض ألا يصوتوا كوافدين إلا في محافظة أخرى.
أمّا الخرق الأكبر الذي كشفه القضاة المشرفون الثلاثة، فهو أنّ هذه "اللجان الآمنة" المؤممة لصالح الأمن الوطني، ظلّت تعمل بدون انقطاع حتى منتصف ساعات اليوم الثالث، ولوحظ أنّ العشرات ممن أدلوا بأصواتهم كوافدين "لم يغمسوا أصابعهم في الحبر الفسفوري على الإطلاق"، الأمر الذي يسمح لضباط الأمن الوطني وعناصر حزب "مستقبل وطن"، القائمين على تجميع الناخبين وتوجيههم، بإعادة استخدامهم مرات عدة في لجان أخرى.
ويمكّن هذا الأمر النظام من تحقيق زيادة ضخمة في نسبة المشاركة، لا سيما أنّ أي عملية لمراجعة كشوف الوافدين ومطابقتها بالكشوف الأصلية لجداول الانتخاب، ستستغرق شهوراً طويلة، نظراً لأن جداول الوافدين تكتب بخط اليد داخل اللجان، ولا تسجّل على قاعدة بيانات إلكترونية تمكّن الهيئة الوطنية للانتخابات أو أي جهة أخرى، من تصفية الأسماء المكررة واستبعاد الأصوات. كما أنّ قرار دمج أصوات الوافدين مع أصوات الناخبين الأصليين، سيجعل من المستحيل عملياً إيجاد الأصوات المكررة واستبعادها إذا حدث واكتشف أحد القضاة المشرفين هذا التكرار، وبالتالي سيكون القضاة أثناء الفرز أمام خيارين؛ أولهما إلغاء الصندوق بالكامل لشكهم في المحتويات، أو تسيير الأمر بمشاكله وشكوك بطلانه.
وبعيداً عن العاصمة واستخدام الوافدين، قال قاض مشرف على لجنة فرعية بدائرة كفر شكر بالقليوبية، إنّ بعض اللجان الفرعية سمحت بالتصويت الجماعي تحت ضغط الأمن الوطني والمباحث، وإنّ القضاة الذين قدموا شكاوى من هذه الضغوط تم تهديدهم صراحة بالاستبعاد والحرمان من مكافأة الاستفتاء، مشيراً إلى أنّ ضباط الأمن الوطني في محيط اللجان حذروا الموظفين من تسجيل أو تصوير أي مقاطع فيديو وبثها عبر شبكة الإنترنت.
وروى قاض آخر يشرف على لجنة فرعية بدائرة منفلوط بأسيوط، أنّه تسلّم لجنته في اليوم الثالث من الاستفتاء بموظفين اثنين، بدلاً من خمسة، وكذلك باقي اللجان في المجمع الانتخابي، بسبب استبعاد معظم الموظفين وحرمانهم من مكافأة الاستفتاء بشكل مفاجئ. وأضاف أنه عندما استفسر عن السبب، تبيّن أن أحد الموظفين سرّب تسجيلاً على مجموعة مغلقة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لمشهد تصويت جماعي في إحدى لجان المجمع. لذا، اكتفى الأمن الوطني بالإبقاء على الموظفين الموثوق بهم بالنسبة له، والذين يتواصلون مع الضباط وديوان المحافظة، لإبلاغ غرف العمليات بالمستجدات أولاً بأول.
وشهدت الساعات الأخيرة من الاستفتاء تراجع ظاهرة توزيع كراتين وحقائب المواد الغذائية التي كانت السمة الغالبة على اليومين الأولين. لكن مواطنين رووا أنهم حصلوا على وجبات دجاج مشوي مقابل التصويت في بعض مناطق الهرم وفيصل، وعلب وجبات كشري مقابل التصويت في حي بولاق الدكرور بالجيزة، بينما اختلفت "عطايا" الاستفتاء في الزمالك ومصر الجديدة، حيث تميزت اللجان بتجمّع عدد من الشباب والشابات صغار السن، الذين كانوا يوزعون زجاجات مياه وحلوى على المقترعين.
لكن الظاهرة التي ظلّت على وتيرتها منذ اليوم الأول وحتى الثالث، تمثّلت في المسيرات بالسيارات والحافلات -والخيول في بعض المناطق الشعبية- ضمن حملة "شارك وانزل واعمل الصح"، التي ينظمها حزب "مستقبل وطن" الذي تديره الاستخبارات العامة. إذ لم تؤثر الانتقادات الشعبية للحزب المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك انتشار صور الرشى الانتخابية التي وزعها عناصره، في العديد من وسائل الإعلام العربية والعالمية، على مواصلة أدائه وتصرفاته هذه.
وكان الحزب قد أصدر مساء أول من أمس الأحد، بياناً شديد اللهجة، حذّر فيه من تناول إدارته للمشهد الانتخابي بالانتقادات، أو نسب اتهامات لأعضائه بتوزيع رشى انتخابية، وذلك بعد ساعات من انتشار شائعة مفادها أنّ المستشار القانوني للسيسي، المحامي محمد أبو شقة، تقدّم ببلاغ ضدّ الحزب، بزعم استخدامه اسم السيسي في توزيع الرشى الانتخابية. وهي الشائعة التي رجح مصدر سياسي في "مستقبل وطن" أنها "موجهة من قبل عناصر سابقة بالأمن الوطني ترغب في توجيه ضربة للحزب، في إطار الصراع الخفي بين مجموعات سابقة وحالية في الأجهزة الأمنية داخل جسد النظام الحاكم، وتصفية الحسابات مع القيادة الجديدة للأمن الوطني الموالية للاستخبارات العامة، واللواء عباس كامل مدير مكتب السيسي سابقاً ورئيس الجهاز حالياً".
وأوضح المصدر لـ"العربي الجديد"، أنّ القيادة الحالية لجهاز الأمن الوطني تتعاون مع عناصر الحزب على أتم وجه، عكس القيادات السابقة التي أبعدت أو تمّ تجميد عملها في عهد وزير الداخلية الجديد محمود توفيق، الذي أخذ على عاتقه منذ توليه الوزارة في أغسطس/آب الماضي، تطويع الأمن الوطني لخدمة مصالح دائرة السيسي الاستخباراتية، وأبعد عشرات القيادات المسؤولة عن التواصل مع التيارات السياسية والمؤسسات الإعلامية والعمل الميداني.