وفي ظل علاقات دولية ودبلوماسية معقّدة، ونظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية يصعّب اتخاذ إجراءات حاسمة ضد الحكومات المتورطة في قتل شعوبها إلاّ بعد خروج المسؤولين من السلطة، أو بتوجه سياسي أعلى من الدول الكبرى المسيطرة على الأمم المتحدة، تؤكد مصادر قانونية مطّلعة على مجريات العمل بالمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، صعوبة تحريك دعوى ناجحة ضد قيادات المجلس العسكري الانتقالي، وفي طليعتهم رئيسه عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"، إلّا من خلال عمل سياسي وحقوقي واسع النطاق يستهدف حشد دوائر مؤثرة في عواصم كبرى، لدفع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في هذه المجزرة دون الحاجة إلى سلوك سبل دبلوماسية.
فالمادّة 13 من النظام الأساسي تتيح 3 طرق لوصول أي قضية، سواء مرتبطة بأحداث داخل دولة مصدّقة على النظام أو في دولة غير مصدّقة كالسودان ومصر، إلى ساحة المحكمة، أولاها أن تشكو دولة طرف إلى المدعي العام من وقوع جريمة أو أكثر، وثانيتها أن يحيل مجلس الأمن حالة معينة على المدعي العام، وثالثتها أن يبدأ المدعي العام من تلقاء نفسه مباشرة تحقيق يتعلق بجريمة معينة ضد الإنسانية.
والحالة الثالثة التي يتصرف فيها المدعي العام من تلقاء نفسه لها سوابق عدة، أبرزها تحريك المدعي العام الأسبق لويس مورينو أوكامبو دعوى ضد الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، لاتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور. وأصدرت الدائرة التمهيدية في المحكمة في عام 2009 قراراً بالقبض على البشير، لم ينفذ حتى الآن، بناءً على المادّة 58 من النظام الأساسي، باعتبار أن المدّعي العام والدائرة التمهيدية اقتنعا بوجود "أسباب معقولة" للاعتقاد بأن البشير ارتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة.
وفي حالة توافر هذه الأسباب الموضوعية المعقولة، التي يتحرك المدّعي العام والدائرة التمهيدية على أساسها، فإنه لا سبيل أمام المتهمين سواء كانوا في السلطة أو غيرها للدفع بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الدعوى بموجب المادّة 19 من النظام الأساسي. وربما هي مفارقة أن تكون مليشيا الجنجويد المتهمة الأولى حالياً في ارتكاب مذبحة القيادة العامة، هي نفسها محور اتهام البشير بالضلوع في أحداث دارفور. وبالعودة إلى نصّ قرار المحكمة ضد البشير، تفيد الحيثيات بأن "حكومة السودان دعت بعيد الهجوم الذي شُنّ على مطار الفاشر في إبريل/ نيسان 2003، إلى تعبئة مليشيا الجنجويد، رداً على أنشطة حركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وغيرهما من جماعات المعارضة المسلحة في دارفور، وقادت بعد ذلك من خلال القوات المسلحة السودانية والجنجويد المتحالفة معها، وقوات الشرطة السودانية وجهاز المخابرات والأمن الوطني ولجنة المساعدة الإنسانية، حملة في مختلف أنحاء دارفور لمكافحة "تمرّد جماعات المعارضة المسلحة".
وهناك نقطة أخرى تؤدي دوراً في إقناع الادعاء العام في المحكمة بالتحقيق، بحسب المصادر القانونية ذاتها، وهي أن تكون القيادة العامة للجيش السوداني على علم كامل بمجريات المجزرة التي جرت على بعد أمتار من مقرها، وأن تقدم أدلّة معقولة للاعتقاد بأن دور المجلس العسكري الانتقالي يتجاوز تنسيق الخطة ووضعها وتنفيذها، بسيطرته الكاملة على الجنجويد أو أي مجموعات أخرى ضالعة في ارتكاب المجزرة، فضلاً عن ثبوت سلامة نيات المعتصمين الضحايا وخلوّ الاعتصام من الأسلحة نهائياً، وعدم استخدام القوة ضد قوات الجيش.
وتتكامل هذه الرؤية مع البند الأول من المادّة 28 من النظام الأساسي بشأن مسؤولية القادة، فهي تتحقق إذا كان القائد العسكري أو الشخص القائم فعلياً بالعمل العسكري مسؤولاً عن الجرائم بطريق العلم المباشر أو العلم العام بسبب الظروف السائدة، أو إذا لم يتخذ التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع ارتكاب الجرائم، فضلاً عن ثبوت أن القوات المنفذة تخضع لإمرته.
وبحسب المصادر، فإن تحرّك المدعي العام، وهو المنصب الذي تشغله حالياً المستشارة الغامبية فاتو بنسودا، ليس من الضروري أن يكلل بالنجاح، وخصوصاً إذا كان التحرك من تلقاء نفسه دون توجيه من مجلس الأمن، أو دون إحالة سابقة من دولة طرف بالمحكمة، لكن على الأقل تصبح هناك فرصة لتداول الأمر داخل المحكمة. ومن الممكن أن تصدر بعض التقارير التي تضع المجلس العسكري الانتقالي في وضع سياسي صعب أمام الرأي العام المحلي، وتصعّب الوثوق فيه مستقبلاً على المستوى الإقليمي والدولي.
وتعدّ القضية الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية في أفغانستان أقرب مثال على ذلك. ففي إبريل الماضي رفضت الدائرة التمهيدية بالمحكمة طلب المدعية العامة المضيّ قدماً، في التحقيق في جرائم ارتكبتها كل من الولايات المتحدة ممثلة في جيشها والمخابرات المركزية، والجيش الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة، وحركة طالبان، ومجموعات مسلحة أخرى، ضد المدنيين الأفغان في الفترة من 2003 إلى 2006. ولم تقل المحكمة في قرار الرفض إنها لم تلحظ وقوع جرائم ضد الإنسانية، بل اعتبرت أن هناك أدلّة وأسباباً معقولة للغاية للنظر في ارتكاب تلك الجرائم في تلك الفترة، لكنها رفضت المضيّ قدماً في التحقيق لأسباب فنية تتعلق بنقص الوثائق المتاحة وضعف التعاون الذي تلقاه المدعي العام، وأن الظروف الراهنة في أفغانستان تضعف أسس الملاحقة القضائية للمسؤولين عن تلك الجرائم.
وعلى الرغم من صدور هذا القرار بهذا الشكل، الذي يعتبر إدانة أدبية للولايات المتحدة وحكومة أفغانستان، لكنه لم يحظ بتغطية إعلامية واسعة نتيجة رفضه المضيّ قدماً في التحقيق. وعلى هذا الأساس طلبت المدعية العامة من جديد الطعن على القرار أمام الدائرة الاستئنافية لتستمر في التحقيقات، ولها كذلك بموجب المادّة 15 من النظام الأساسي أن تقدم طلباً جديداً للتحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة.
وتخلص المصادر من هذه الأمثلة إلى أنه يجب على القوى السياسية والمنظمات الحقوقية في السودان العمل سريعاً على جمع الأدلة المصورة والوثائق بشتى أشكالها، وتقديمها إلى المدعي العام للمحكمة لا رفع دعوى أمام المحكمة مباشرة، والعمل على نشر هذه الأدلة في وسائل إعلام غربية وبين منظمات حقوقية لها ثقلها وتأثيرها على الادعاء، ليبدأ التحقيق مباشرة بهدف تحريك القضية أمام المحكمة.
وتشير المصادر إلى صعوبة اتباع أي طرق أخرى لتحريك القضية، إلا إذا تم التأثير بنفس طريقة "الحشد الدعائي والسياسي" على دولة طرف في النظام الأساسي ليس من مصلحتها استمرار المجلس العسكري الانتقالي في الحكم، لأن الطريقة الوحيدة المتبقية الخاصة بتحرك مجلس الأمن لن تجدي نفعاً على المستوى العملي، في ظل موقف بعض دول الفيتو كروسيا والصين المعارضين للحالة الثورية والمؤيدين للمجلس الانتقالي وتحالفهما مع حلفائه الإقليميين.
وتوضح المصادر القانونية أن هناك سبلاً أخرى لتصعيد القضية، مثل تقديم شكاوى في محاكم بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وسويسرا، أو في المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، لكنها "تظل أقل قيمة وتأثيراً ولا تتسم بالجدية التي يمكن توسمها في المحكمة الجنائية الدولية"، ويكون اللجوء إليها بنفس الوسيلة من خلال تقديم شكاو مرفق بها أكبر قدر من الأدلة والإثباتات، على أمل استصدار أوامر ولو وقتية بتوقيف أو ترصد قيادات المجلس العسكري عند تجوالهم بالدول الأوروبية.
ولكن ما المسار القانوني الأصلح للتعامل مع قضايا مثل قضية قتل المعتصمين بالسودان، وما الخيارات المتاحة لمحاسبة المسؤولين عن تلك المقتلة، وهل هناك إمكانية لتشكيل لجنة تحقيق دولية، أو إحالة القضية على محكمة جنائية، وتحريك دعاوى ضد أعضاء المجلس العسكري؟
اعتبر أستاذ القانون الدولي العام في مصر أيمن سلامة، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "المجلس العسكري الانتقالي في السودان، وفقاً لقواعد المسؤولية الدولية ووفقاً أيضاً للواقع الأخير في السودان المتمثل في قتل أكثر من مائة شخص، تنعقد العديد من المسؤوليات القانونية بحقه". وأضاف أنه "قد تترتب مسؤوليته القانونية الإيجابية إذا رسخ (وفق أدلة ثبوتية دامغة لا تقبل الشك)، أنه أسهم بأي شكل من أشكال المساهمة الإيجابية الجنائية في قتل المعتصمين سواء بالأمر أو التحريض أو التآمر أو المساعدة أو التسهيل". ونوّه بأنه "تنعقد أيضاً المسؤولية الجنائية السلبية في حق المجلس العسكري عن تقصيره في عدم التدخل، لمنع ارتكاب الجرائم وإحالة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم للتحقيق والمقاضاة".
وبخصوص تشكيل لجنة تحقيق في الجريمة التي وقعت أمام القيادة العامة بالخرطوم، قال سلامة إن "الأصل العام أن تقوم سلطات الدولة التي وقعت في إقليمها مثل هذه الجرائم، بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق فيها ومحاسبة المدعى بارتكابهم هذه الجرائم، ولكن في الحالات التي يثبت فيها عدم حيادية هذه اللجان واستقلاليتها، وبفرض صورية التحقيقات والمحاكمات بهدف إفلات المدعى بارتكابهم هذه الجرائم التي أضحت مثار اهتمام المجتمع الدولي، فإن هناك العديد من الهيئات الدولية التي تستطيع أن تتدخل من أجل الاضطلاع بالتحقيقات والمحاكمات". وأشار سلامة إلى أن "من بين الهيئات الدولية المقصودة: منظمة الاتحاد الأفريقي، ومجلس حقوق الإنسان لمنظمة الأمم المتحدة، والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب (وفق شروط إجرائية وموضوعية معينة)، ومجلس الأمن لمنظمة الأمم المتحدة، بشرط موافقة الخمسة الكبار". ورأى أن "لجنة تقصي الحقائق في دارفور عام 2004 هي التي شكلت الأساس القانوني الأول لإصدار مجلس الأمن قراره رقم 1593 في مارس/ آذار عام 2005، بإحالة الحالة في دارفور على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي".
وكان النائب العام السوداني، مولانا الوليد محمود، أعلن يوم الخميس الماضي أن لجنة التحقيقات التي شكلها للتحقيق في الأحداث التي وقعت أمام مقر القيادة العامة قد بدأت أعمالها، وبدأت في استجواب بعض شهود العيان، وأنها ستواصل تحقيقاتها للانتهاء من مهمتها في زمن قصير.
وذكرت منظمة العفو الدولية أن "تاريخ السودان الحديث معروف بإفلات مرتكبي جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان من العقاب". وأضافت: "نحث مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، على أن يقوما بدورهما لكسر حلقة الإفلات من العقاب هذه، وعلى اتخاذ التدابير الفورية اللازمة لإخضاع مرتكبي جرائم العنف هذه للمساءلة".
وأعلنت لجنة أطباء السودان المركزية (غير حكومية) يوم الأربعاء، ارتفاع عدد ضحايا مجزرة فضّ الاعتصام بمحيط مقر القيادة العامة للجيش السوداني في الخرطوم، إلى 101 قتيل، فضلاً عن مئات الجرحى.
وذكرت اللجنة، في بيان نشرته على حسابها بموقع "فيسبوك"، الأربعاء الماضي، أن "عدد القتلى ارتفع إلى 101 شخص على الأقل، بعد مقتل المواطن مصطفى رابع محمد صالح بطلق ناري في الرأس من قوات المجلس العسكري، مع وقوع عدد من الإصابات تم إسعافها إلى المستشفى". وأفادت لجنة الأطباء عن إحصاء 61 من القتلى في المستشفيات، فيما عثر على 40 منهم في مياه النيل.
بدوره، لم يعوّل عضو لجنة تقصّي الحقائق في قتل المتظاهرين المصريين إبان ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، المصري محسن بهنسي، على الموقف الدولي كثيراً، وقال لـ"العربي الجديد" إن "النظام الدولي الحالي في ظل زعماء مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا يمكن أن يتخذ موقفاً مناصراً لقضية الشعب السوداني إلا في حال تصاعد الاحتجاجات الشعبية في السودان". ورأى أن "السودانيين يحاولون تدارك الأخطاء التي وقعت بها الثورة المصرية وهذا أمر جيد"، مؤكداً أن "صمود الشعب السوداني على الأرض هو عنصر الحسم في الفوز، وأن التطورات الدولية ستفرض نفسها مع تطورات الشارع السوداني". وحول المحاسبة وتحقيق العدالة للقتلى السودانيين، قال بهنسي إن "منظومة العدالة السودانية اتخذت موقفاً منحازاً لثورة الشعب السوداني، ومن الممكن أن تقوم بمحاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين السلميين في ميدان الاعتصام".