تركيا باستقطابات جديدة ــ قديمة: فرص المعارضة وتعقيدات السلطة

26 يونيو 2018
احتفالات بفوز العدالة والتنمية في إسطنبول (أريس ميسينز/فرانس برس)
+ الخط -
صحيح أن غالبية تركية بسيطة جددت دماء حكم حزب العدالة والتنمية ورمزه رجب طيب أردوغان خمس سنوات مقبلة على الأقل، إلا أن السنوات الخمس تلك ستكون مختلفة تماماً عما سبقها منذ نهاية 2002، تاريخ أول انتصار نيابي يحققه الحزب المذكور. فلا أحوال الحكم في ظل نظام رئاسي يدخل تطبيقه حيز التنفيذ لدى الإعلان عن النتائج الرسمية في الخامس من يوليو/تموز المقبل، ستبقى على حالها، ولا أحوال المعارضة كذلك. رأس الحكم أمامه فرصة الصلاحيات الفائقة بموجب ما يعطيه إياه النظام الجديد، بينما المعارضة المشتتة سيكون لديها أوراق السلطة المضادة بوزن برلماني كبير، والتدويل المستمر لنزاعها مع أردوغان شخصياً، وجهود "لمّ الشمل" التي فشلت مراراً وتكراراً فيها، وآخر تلك المرات عندما أصرّ طيف مهم من المعارضة، ممثلاً بالنجمة الجديدة للقوميين اليمينيين المتطرفين، ميرال أكشنر، وبرمز القوميين الأكراد، صلاح الدين دميرتاش، على الترشح وإجهاض احتمال تسمية كل المعارضة الكمالية واليسارية والقومية التركية والقومية الكردية، الرئيس السابق عبدالله غول للرئاسة، ما كان سيوفر فرصة كبيرة للرفيق السابق لأردوغان في الحزب وفي النضال ضد "التسلط العلماني" أن يكسر مسيرة العقد ونصف العقد من حكم حزب غول السابق.


فاز أردوغان (64 عاماً) لكن بنسبة 52 في المائة غير المريحة تماماً. كذلك حل حزبه أولاً (42.5 في المائة) ولم يحسم غالبية برلمانية إلا بتحالفه مع الحركة القومية (11.1 في المائة) المزعج في مطالبه الوزارية وفي أجندته السياسية القومية المتطرفة تجاه الداخل والخارج. لكن هناك أكثر من فائز في هذه الانتخابات التي سجلت أكبر عدد من الأحزاب الممثلة في البرلمان منذ انطلاق حكم "العدالة والتنمية". فللمرة الأولى، يتقاسم ممثلو 5 أحزاب المقاعد التي صار عددها 600 بدل 550، مع اقتحام قومي يميني متطرف جديد لمبنى السلطة التشريعية في أنقرة، وهو "الحزب الجيد" المنشق عن حليف أردوغان، الحركة القومية، وزعيمه دولت باهتشلي. ولا يبدو هناك خاسر كبير في هذه الانتخابات فعلاً ولا منتصر ساحق. حتى قوميو الأكراد يعتبرون أنفسهم منتصرين أوائل بتمكنهم من اجتياز العتبة البرلمانية المحددة بـ10 في المائة وحجزهم 67 مقعداً كثالث أكبر حزب برلماني رغم الحملة العنيفة التي يتعرض لها حزبهم ونوابهم السابقون، يسبقهم شيخ المعارضة التركية، الشعب الجمهوري، مع 146 نائباً، والعدالة والتنمية مع 293 مقعداً، ويليهم "عدوهم" التاريخي، الحركة القومية بـ50 نائباً منتخباً، وأخيراً، الحزب الجديد "الجيد"، وعمره أقل من ستة أشهر، ومع ذلك فاز عنه 44 مشرعاً.


أما رئاسياً، فبدا أردوغان الأقوى بكل المقاييس مع الـ52.6 في المائة من الأصوات التي أعطاه إياها 26 مليوناً و325 ألف ناخب. وتفرقت أصوات الأتراك للمرشحين المعارضين الـ4 الآخرين بواقع 30.6 في المائة للمرشح الأقوى محرم إنجه (الشعب الجمهوري الكمالي العلماني) و8.4 في المائة لصلاح الدين ديميرتاش القومي الكردي اليساري المهدد بعقوبة السجن 142 عاماً، و7.3 في المائة لميرال أكشنر اليمينية القومية المنشقة عن الحزب الأم للقوميين اليمينيين، بينما نال مرشحان معارضان آخران مجتمعان 1.1 في المائة من أصوات 59 مليون ناخب تركي. ولأن الأرقام تشوّش الفهم الحقيقي أحياناً للواقع السياسي، فإن نظرة سريعة على خريطة توزع أصوات كل طرف حزبي في انتخابات 24 يونيو/حزيران المبكرة، تكشف انقساماً رهيباً في الشارع التركي، لا يراه كثيرون داخل تركيا وخارجها صحياً، ذلك أن تحالف القوميين ــ الإسلاميين ــ المحافظين، أي "تحالف الشعب" (العدالة والتنمية والحركة القومية) نال غالبية مقاعد 63 ولاية تركية من أصل 80، جلّها في عمق الأناضول وفي الشمال والجنوب التركيين، في مقابل صورة غرب تركي غني متمرد سياسياً على "تحالف الشعب" لمصلحة المرشحين إنجه العلماني الكمالي وأكشنر القومية اليمينية المتشددة. أما الشرق وجنوب الشرق الكرديان، فظلا بمحافظاتهما العشر وفيين لحزب الشعوب الديمقراطي ومرشحيه البرلمانيين ورمزه السجين، ديميرتاش، عقاباً لأردوغان على سياساته المتشددة أمنياً وسياسياً ضد القوميين الأكراد، وهو ما لم يمنع "العدالة والتنمية" من البقاء في المرتبة الثانية الأكثر تمثيلاً بالنسبة لأكراد تركيا، المتدينين خصوصاً وغير القوميين.

إذاً، تركيا اليوم منقسمة سياسياً بشكل عمودي أكثر من أي يوم مضى. انقسام يتوقع كثيرون أن تزداد حدته بفعل الصلاحيات الهائلة التي سيتمتع بها الرئيس التركي من اليوم فصاعداً، في ظل غالبية برلمانية لن تعرقل عمله طالما بقي الحزب القومي اليميني (الحركة القومية) راضياً بما يقدمه له التحالف مع العدالة والتنمية، سياسياً في الداخل ضد الأكراد خصوصاً وفي المناصب الوزارية وفي السياسة الخارجية ضد كل ما هو "غريب" عن البيئة التركية التاريخية والقومية واللغوية. وهنا، لا شيء مؤكد، ذلك أن كلاماً كثيراً تناقله الإعلام التركي أخيراً عن حصة وازنة من الوزارات يطالب بها الحزب اليميني القومي، بما لا يرغب أردوغان في أن يقدمه بالضرورة، لكنه قد يجد نفسه مضطراً إلى فعل ذلك في سبيل بحثه عن استقرار ولايته الأولى التي يرجح أن تكون تمهيداً للترشح إلى ولاية ثانية يسمح له بها النظام الرئاسي. بدءاً من الخامس من يوليو/تموز المقبل، سيكون أردوغان، دستورياً، الرأس الوحيد للسلطة التنفيذية، على الطريقة الأميركية، بلا منصب رئيس حكومة شغله بن علي يلدريم للمرة الأخيرة، وبلا حكومة فعلية بمفهوم السلطة التنفيذية المجتمعة.

سيسمي أردوغان 16 وزيراً، أو مساعداً له بالأحرى، في إدارته، أيضاً على الطريقة الأميركية المعروفة، لكن بفوارق كثيرة طبعاً ليست التعددية الحزبية في تركيا سوى عينة عنها. لن يكون مضطراً للتشاور مع أحد في تعييناته الحكومية والإدارية والدبلوماسية بمراسيم لا تحتاج إلى موافقة البرلمان. لكن إرضاء حليفه المزعج "الحركة القومية" سيكون ضرورياً في حال رغب في ضمان ظهيره البرلماني. لن يستطيع البرلمان المنتخب حديثاً تشكيل غالبية الثلثين لفرض إقالة الرئيس مثلاً، بموجب ما يتيح له النظام الرئاسي الجديد، لكنه سيكون مزعجاً للرئيس في حال تمكنت أحزاب المعارضة الثلاثة، من الاتحاد فعلاً في السلوك البرلماني، وهو ما يبقى احتمالاً ضئيلاً للغاية في ظل وجود حزبين معارضين تجمع بينهما الخصومة لا بل العداء والتاريخ الدموي، أي حزبي القوميين الأتراك (الحزب الجيد) والقوميين الأكراد (الشعوب الديمقراطي). وبالحديث عن الحزب الأخير، إن توقعاً سريعاً لتقدم اليمين القومي في جبهتي المعارضة والموالاة، يوحي بأن الأيام المقبلة، أو بالأحرى السنوات الخمس المقبلة، ستكون محملة بالمزيد من التشدد تجاه القوميين الأكراد.

أغلب الظن أن خطاب المعارضة المنقسمة سيعتمد على هجوم مستمر على السلطة الجديدة ــ القديمة في تركيا التي لا تزال تخضع لقوانين الطوارئ منذ محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز 2016. حالة طوارئ شهدت سجن نحو 160 ألف شخص من الانقلابيين ومن المتهمين بالانتماء إلى حركة الخدمة ومن القوميين الأكراد المتهمين بالإرهاب ومن الصحافيين المعارضين، وشهدت إغلاق منافذ إعلامية واتساع نفوذ دوائر من عائلة أردوغان اعلاميا واقتصاديا، وهو ما يعطي المعارضين أوراقاً دسمة لمهاجمة ما تسميه "تسلط أردوغان" وصولاً إلى طلب المساعدة الخارجية للضغط عليه على الأقل.


أما في السياسة الخارجية، فإن أولى التهاني الخارجية التي وصلت أولاً إلى قصر الرئاسة بفوز أردوغان وحزبه، وأسرعها، ربما تختصر مشهد مواصلة تركيا السير على الطريق التي رسمته لنفسها في توسيع نفوذها في الشرقين الأوسط والأدنى ومناطق النفوذ العثمانية السابقة، وإن كان على حساب تحدي مراكز النفوذ التقليدية والمستجدة في المنطقة، مثل السعودية ومصر، وتحدي الغرب الأوروبي والأميركي وابتزازه بالتحالف مع روسيا وإيران، والخروج من هوس العضوية الأوروبية الكاملة ربما لعلم أردوغان وصحبه أن الاتحاد هو فعلاً "نادٍ مسيحي" مثلما درج أردوغان نفسه على تكراره مقتبساً التعبير من بعض باباوات الفاتيكان. من هنا، ربما يصبح مفهوماً لماذا سارع كل من فلاديمير بوتين وحسن روحاني إلى تهنئة أردوغان، قبل ساعات على وصول برقيات واتصالات التهنئة من حلف شمال الأطلسي الذي تشكل تركيا ثاني أكبر جيش بري في صفوفه. وربما انطلاقاً مما سبق، يصبح أيضاً مفهوماً فحوى التهنئة الحزينة التي وصلت من المفوضية الأوروبية لأردوغان.

المساهمون