هكذا مهّد الفساد طريق الأحزاب الشعبوية في إيطاليا

04 مارس 2018
من تظاهرة ضد الفاشية في روما (Getty)
+ الخط -


مع توجّه إيطاليا إلى الانتخابات العامة، اليوم الأحد، يتضح تراجع الخارطة الحزبية التقليدية لمصلحة تقدّم الشعبويين. والمفارقة في إيطاليا، الباحثة عن استقرار حكومي، أن الفساد الذي كُشف النقاب عن حجمه الواسع بداية من عام 1990 بحملة الأيادي النظيفة "ماني بوليتي" كان نقطة الانطلاق الكبرى لبروز دور الأحزاب والحركات الشعبوية.

انتشر الفساد واستغلال المناصب، وصولاً إلى الفضيحة السياسية الكبرى في التاريخ الإيطالي الحديث التي شهدها شهر فبراير/ شباط 1992، باعتقال السياسي ماريو كيزا. وتوسّعت الحملة لتشمل التحقيق مع أكثر من 500 عضو برلمان و6 رؤساء وزراء سابقين، وآلاف الموظفين ورجال الأعمال، ما شكّل صفعة قوية للنظام القائم.

دفعت الحملة عدداً كبيراً من المسؤولين إلى الاستقالة والخروج نحو التقاعد المبكر، مع انتشار حالة عدم ثقة بالأحزاب التقليدية، التي كانت تهيمن على مشهد السياسة الإيطالية. واحد من هؤلاء، الذين استغلوا عدم رضا الشعب على ساستهم، كان رجل الإعلام سيلفيو برلسكوني. أسس برلسكوني، على أنقاض الضربة لتلك الأحزاب، حزبه "فورزا إيطاليا" في عام 1993، ولم يمض عام حتى انتقل إلى منصب رئاسة الوزراء في روما عام 1994.

حينها كان العالم يودّع حقبة الحرب الباردة، والأيديولوجية التقليدية القائمة. وهي سنوات مفصلية، برأي البروفيسور والباحث الإيطالي في "ازدهار الشعبوية" في جامعة بافيا، فلافيو شيابوني، جعلت "إيطاليا بقعة مواتية للشعبوية، وبرلسكوني مثلاً ممتازاً. فقبل أن يبدأ الأوروبيون الآخرون التحدث عن الشعبوية السياسية، كانت تنتشر في إيطاليا".
شيابوني، الذي بحث في جذور تاريخ الشعبوية السياسية في إيطاليا، وشروطها للاستمرار، يربط ازدهارها بعجز الديمقراطية الإيطالية، "فخلال السنوات الماضية لم تحقق نجاحات كبيرة بين الناخبين، وعلى الرغم من ذلك قامت بتأسيس حكومات ضعيفة، بينما العديد من الإيطاليين يمتنعون عن التصويت لشعورهم بالعجز عن إمكانية التغيير عبر الصناديق".

الملاحظ في إيطاليا أنه منذ قدوم برلسكوني إلى السلطة في 1994 تشكّلت 13 حكومة، من بين 64 حكومة منذ 1946، ونصفها حكومات أقلية. ويأمل كثيرون أن يعبّد الإصلاح في نظام الانتخابات، الذي على أساسه تجرى انتخابات اليوم الأحد، إمكانية الدخول في ائتلافات حزبية لتشكيل حكومة موسعة، على أمل خلق استقرار في الحكم. لكن هذا الإصلاح ليس الأول، بل الرابع منذ 2005، وعليه فالتشاؤم ينتشر بين الإيطاليين حول إمكانية حدوث "معجزة" في النظام الانتخابي الجديد.


وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن الأحزاب التقليدية ذاهبة نحو خسارة، لمصلحة تقدّم الحركات الشعبوية، ليبدو أن الشعبويين تعلّموا درساً آخر من زملائهم الأوروبيين، في ألمانيا والدنمارك والسويد، فذهب حزب "رابطة الشمال" إلى شطب "الشمال" من اسمه، وغيّر من لهجة اتهام الجنوب بسرقة أثرياء الشمال. ويشعر زعيم الحزب، ماتيو سالفيني، اليوم، بأنه يستطيع تسويق الخطاب القومي بثوب يميني مقبول في القارة الأوروبية. وكلمة السر المشتركة بين القوميين المتعصبين: المهاجرون والأجانب، وخطاب عدواني بوجه الإدارة السياسية القائمة في كل بلد، وبوجه الاتحاد الأوروبي، وهذا التصويب الشعبوي هو ذاته في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها. وإلى جانب "الرابطة" يتقدّم حزب "النجوم الخمس"، كإحدى الحركات الاجتماعية الاحتجاجية الشعبوية في إيطاليا، بخطاب للجمهور عن ضرورة "الوقوف بوجه الفساد السياسي مهما كان مصدره".

بالنسبة إلى الخبير في شأن الشعبوية الإيطالية، البروفيسور فلافيو شيابوني، فإن "نوعية القيادة الشعبوية تلعب دوراً في جذب الجمهور". ويعدّد صفات هذه النوعية بأنها: كاريزمية، بصفات خطابة استثنائية للأعضاء والشعب، ويظهرون كثيراً من الحماسة لما يعتبرونه "مهمة سياسية قومية". إلى جانب ذلك، تبرز قدرة القيادة على رعاية علاقة زبائنية مع الأعضاء، باكتساب صفة الزعامة بالولاء مقابل مكاسب سياسية للأعضاء، ولدى هذه القيادة استعلائية وانتهازية.
وفي هذا السياق، يبرز حزب "النجوم الخمس"، كممثل لحالة شعبوية غير تقليدية، فهو لا يصنف نفسه لا يساراً ولا يميناً، بل بخطاب جذب للقواعد الشعبية، المضادة للنظام السياسي القائم، ويستخدم شخصيات من خارج الحقل السياسي، كممثلين وكوميديين، بالادعاء أنه حزب "يبحث عن الشفافية والصراحة والمصداقية لمصلحة ابن الشارع، حين يكون في داخل البرلمان، وهو يؤمن بأنه لا حاجة للمتخصصين والسياسيين لقيادة البلد".

حين انفجرت قضية الفساد في 1990، واعتُقل ماريو كيزا، انفجرت معه قنبلة الفساد بوجه "الحزب الاشتراكي" الإيطالي، ما اضطر زعيم الحزب، بتينو كراكسي، إلى أخذ موقف حازم ومندد بفساد كيزا، وقبوله الرشوة، معتبراً إياه "شريراً في حزب نظيف". لكن انكشاف الاتهامات المتبادلة، ووصول الأمر إلى تقديم المتهم معلومات أضرّت بحزبه، وسّعا من التحقيق، لتسقط في الفضيحة أحزاب تقليدية وعريقة. فإلى جانب "الاشتراكي"، أصيب أيضاً "الديمقراطي المسيحي" و"الحزب الليبرالي الإيطالي" و"الاجتماعي الديمقراطي". وكل تلك الأحزاب هي أحزاب حكومية، بمعنى أنها من كانت تشكل الحكومات تقليدياً، وهو ما اعتُبر ضربة كبيرة للأحزاب التقليدية، باستثناء حزب "الجمهوريين الليبرالي" و"رابطة الشمال"، لمصلحة تقدّم خطاب الشعبويين.

تقليدياً كان التنافس بين "الديمقراطيين المسيحيين" و"الحزب الشيوعي"، وعلى الرغم من أن الأول كان يشكل الحكومات، فإن "الشيوعي" كان يؤخذ بجدية كبيرة، إلى أن سقط جدار برلين وانتقلت إيطاليا إلى ما يسمّى "الجمهورية الثانية"، التي تعيش اليوم تقدّم الشعبوية.

دلالات
المساهمون