سد النهضة نحو اتفاق بأيادٍ أميركية... والمخاوف قائمة

14 فبراير 2020
ترى إثيوبيا أن سلطتها على السد سيادية ومطلقة(فرانس برس)
+ الخط -


لم ينجح إعلان وزارتي خارجيتي مصر وأميركا عن اتفاق وزراء الخارجية والري، في مصر وإثيوبيا والسودان، على إسناد مهمة إعداد صيغة الاتفاق النهائي حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة إلى وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، وحتمية التوقيع على الاتفاق قبل نهاية الشهر الحالي، في إخفاء فشل جديد منيت به المفاوضات في الجولة الأخيرة التي عُقدت في واشنطن، الأربعاء والخميس الماضيين، على الرغم من الترويج الإعلامي الواسع في مصر لفكرة "نجاح المفاوضات". وعلى النقيض، ظهر تحفظ إثيوبي مخالف تماماً للهجة المصرية والأميركية، حيث أعلنت الخارجية الإثيوبية، في بيان مساء أمس الجمعة، نشر على وكالة الأنباء الرسمية، أن "الجولة انتهت دون التوصل إلى اتفاق"، بينما قال وزير الري الإثيوبي سيليشي بيكيلي إن "هناك تقدماً، لكن الاتفاقية تتطلب مزيداً من العمل".

وقالت الخارجية المصرية، في بيان فجر أمس، إنه خلال الجولة الأخيرة "تم استكمال التفاوض على عناصر ومكونات اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة، والتي تتضمن ملء السد على مراحل وإجراءات مُحددة للتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة التي قد تتزامن مع عملية ملء السد، وكذلك قواعد التشغيل طويل الأمد، والتي تشمل التشغيل في الظروف الهيدرولوجية الطبيعية، وأيضاً إجراءات التعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة". وأضافت "تطرقت الجولة إلى آلية التنسيق بين الدول الثلاث التي ستتولى متابعة تنفيذ اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة، وبنود تحدد البيانات الفنية والمعلومات التي سيتم تداولها للتحقق من تنفيذ الاتفاق، وكذلك أحكام تتعلق بأمان السد والتعامل مع حالات الطوارئ، فضلاً عن آلية ملزمة لفض أي نزاعات قد تنشأ حول تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق".

وما بين ذكر ما تطرقت إليه المفاوضات من دون الإفصاح عن محتوى نتائجها الموضوعية، لا الإجرائية، فإن الفشل هذه المرة تعكسه مخرجات الجولة التي أجريت في واشنطن نهاية الشهر الماضي وامتدت لأربعة أيام. وكان قد تم وقتها الاتفاق على "تكليف اللجان الفنية والقانونية بمواصلة الاجتماعات في واشنطن من أجل وضع الصياغات النهائية" للبنود التي تم الاتفاق عليها بشكل مبدئي، وهي: جدول يتضمن خطة ملء سد النهضة على مراحل، والآلية التي تتضمن الإجراءات ذات الصلة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء الملء، والآلية التي تتضمن الإجراءات الخاصة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء التشغيل، علماً أن هذا الاتفاق ما زال رهن التوقيع النهائي على الاتفاق الشامل.

لكن فشل اللجان الفنية والقانونية التابعة للدول الثلاث في التوصل إلى صياغات نهائية، في ظل الضغط المستمر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خزانته ستيفن منوتشين على الجانب الإثيوبي بغية التوصل إلى "اتفاق" وإعلانه، بغض النظر عن محتواه وآثاره، أدى إلى اتفاق الأطراف الثلاثة على إسناد مهمة الصياغة للجانب الأميركي والبنك الدولي، ما يؤكد عجز الأطراف الأصيلة عن التوصل إلى اتفاق نهائي يرضيها جميعها.

ولم تعلن مصر أو أي طرف عن تفاصيل جديدة للاتفاق، ما يعتبر فشلاً جديداً يضاف إلى سلسلة من الإخفاقات التفاوضية، ولا سيما أن الأطراف المختلفة كانت دائماً حريصة على إعلان تفاصيل - ولو مبدئية - عن البنود التي يتم التوافق عليها أولاً بأول. كما أنه كان من المقرر أن يتم الإعلان، عقب الجولة المنتهية، عن حسم ملف آليتي التنسيق وحل النزاع، الذي عطلت أديس أبابا الاتفاق بشأنه في جولة واشنطن نهاية الشهر الماضي. وترى إثيوبيا أن سلطتها على السد سيادية ومطلقة، في حين ترى مصر، وتقترح الولايات المتحدة ويوافق السودان، على أن تضم عدة مسارات، بتخصيص اجتماعين دوريين سنوياً بين وزراء الخارجية والمياه بكل من الدول الثلاث، تقدّم فيهما أديس أبابا خطة الملء الخاصة بها، وتعرض فيهما مصر مخاوفها ومحاذيرها المختلفة.


لكن إثيوبيا ترغب في إبعاد وزراء الخارجية عن النقاشات الفنية، وهناك مقترحات أخرى بأن يتم تشكيل لجنة فنية خالصة من الدول الثلاث لمتابعة حالة النيل ومدى التزام كل طرف بتعهداته. كما توجد خلافات أخرى حول اللجوء لدول أو مكاتب استشارية لفضّ النزاعات، إذ ترغب مصر في استمرار الاعتماد على البنك الدولي والولايات المتحدة في هذا المجال، بينما عرضت إثيوبيا إدخال طرف أفريقي، وهو ما لم ترحب به مصر.
مصادر دبلوماسية مصرية قالت، لـ"العربي الجديد"، إن "صياغة بنود الاتفاق، بأيادٍ أميركية وأخرى تابعة للبنك الدولي، وإن كانت خطوة مُرضية لمصر على المدى القصير وتسمح للنظام المصري بالإعلان عن النجاح في التوصل إلى اتفاق، حتى بغض النظر عن محتواه وآثاره، فإنها تثير لدى القاهرة مخاوف مستقبلية، تتمثل في إمكانية انقلاب أديس أبابا عليه في أي لحظة، سواء بسبب خلافات فنية مقبلة مع مصر أو بسبب تغيير نظام الحكم أو اتجاهات السلطة هناك". وذكرت بما قامت به أديس أبابا إزاء اتفاق المبادئ الذي وقّع عليه رئيس الوزراء السابق هايلي ميريام ديسالين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في مارس/ آذار 2015.

وأضافت المصادر أن "فكرة تصدي الولايات المتحدة لصياغة الاتفاق كانت مطروحة من البداية، شرط أن تقتصر على الصياغة فقط، وليس التدخّل في المسائل الفنية. لكن الممارسة العملية للمفاوضات أثبتت أنه لا توجد إمكانية للصياغة كعمل مستقل عن المسار الفني، ولذلك فإن الولايات المتحدة تؤدي الآن دوراً أقرب للوساطة منه إلى التسهيل والمراقبة، مع فارق جوهري بين الوضع الحالي والوساطة المنصوص عليها في المادة العاشرة من اتفاق المبادئ، وهو إمكانية اعتراض أي طرف على الصياغات الأميركية وعدم إمكانية تقديم واشنطن حلولاً مستقلة".

ومن أديس أبابا، قال مصدر إثيوبي تابع لجبهة تحرير تيغراي، وهي إحدى مكونات التحالف الحاكم الحالي، والتي تجمعها علاقة متوترة سياسياً برئيس الوزراء أبي أحمد، لـ"العربي الجديد"، بعد ساعات من اختتام جولة التفاوض، إن "الرأي العام الإثيوبي غاضب بشدة بسبب تحول الولايات المتحدة والبنك الدولي من مراقبين إلى وسطاء واقعياً، ومسيّرين للتفاوض وليسوا ميسّرين له، بعدما تسلما قيادة مهمة صياغة الاتفاق". وأضاف المصدر أن "الصمت الرسمي الإثيوبي في أول 12 ساعة بعد اختتام الجولة سببه ضرورة تفاهم وزيري الخارجية والري مع أبي أحمد حول طريقة تسويق نتيجة المفاوضات للرأي العام الإثيوبي، من دون الاصطدام بواشنطن، وذلك بعد الاتصالات التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع أحمد مطلع الشهر الحالي، لتأكيد عدم سماح واشنطن بإفشال المفاوضات، وأيضاً حرص واشنطن على سلامة واستمرار ونجاح مشروع سد النهضة". ورجح المصدر أن يتم التركيز في الخطاب الإثيوبي الرسمي خلال الساعات المقبلة على حتمية بدء ملء الخزان الرئيس للسد في يوليو/ تموز المقبل، باعتبار ذلك دليلاً أكيداً على جدية الحكومة في مواجهة الادعاءات والانتقادات الداخلية من فصائل عدة مناوئة لأبي أحمد.


ويتطابق حديث المصدر الإثيوبي مع تصريحات سابقة أدلى بها مصدر دبلوماسي مصري، لـ"العربي الجديد"، في أعقاب جولة التفاوض قبل الأخيرة، مفادها أن إصرار ترامب ومنوتشين على الخروج بوثيقة "إيجابية" بشأن المفاوضات هو الذي أنقذ الجولة، وضمن إحياء المسار التفاوضي بالكامل لنهاية الشهر الحالي، وأنه لو كان ترامب ومنوتشين لم يبذلا جهداً كبيراً في سبيل ذلك لما كانت وفود الدول الثلاث قد بقيت في واشنطن لحظة واحدة بعد نهاية اليوم الثاني من تلك الجولة والذي شهد "خلافاً شديداً بين مصر وإثيوبيا".

ومنذ اتصال ترامب بأحمد، مطلع الشهر الحالي، يبدو وكأن المفاوضات تسير في اتجاه سياسي رُسم لها، بغية التوصل إلى اتفاق، من دون الإفصاح عن طبيعة ما يتم الاتفاق عليه. وتلقت القاهرة تطمينات من واشنطن بحتمية توقيع الاتفاق. أما المسؤولين الرسميين الإثيوبيين فبدأوا التمهيد إعلامياً لفكرة ضرورة عقد هذا الاتفاق، كرد فعل على مقالات صحافية وشائعات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها كان متطرفاً في الهجوم على أبي أحمد، بحجة أن توقيع الاتفاق يفرط في السيادة الإثيوبية على السد، وبعضها الآخر زعم أن أحمد سيستمر في خداع القاهرة وواشنطن بالمماطلة في المفاوضات. كما عقد وزير المياه الإثيوبي سيليشي بيكيلي، الذي يقود المفاوضات عن بلاده، مؤتمراً صحافياً في الرابع من الشهر الحالي، قال فيه إن "إثيوبيا حريصة على استكمال التفاوض وحل المشاكل مع مصر والسودان من دون التنازل عن مكتسباتها ومصالحها العليا". وكان بيكيلي قد ذكر، في تصريحات له فور وصوله إلى واشنطن الأربعاء الماضي، أن "هناك العديد من القضايا العالقة التي لم تحل بعد"، بينما كشفت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، قبل بداية جولة التفاوض الأخيرة عن اتفاق بين القاهرة وواشنطن على عقد جولة تفاوض إضافية حول قضية سد النهضة الإثيوبي، هذا الشهر، إذا لم تكلل الجولة بالنجاح، على أن يتم في كل الأحوال توقيع "اتفاق" بحلول نهاية الشهر، وذلك في سياق التطمينات الأميركية للقاهرة.

ووفقاً للمصادر، فإنه سيتم تخصيص الاجتماع الأخير في واشنطن، المقرر نهاية الشهر الحالي، لبندين أساسيين، الأول هو توقيع الاتفاق، والذي تفضل أميركا أن يتم بواسطة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، بحضور ترامب. أما البند الثاني فهو إعلان واشنطن تقديم دعم مالي وفني للدول الثلاث لرفع كفاءتها الفنية، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من مياه النيل، فضلاً عن إعلان رعايتها لبعض المشاريع الأخرى، التي تم التطرق إليها خلال المفاوضات الممتدة، ومنها زراعة حزام شجري للاستمطار، على أمل زيادة فيضان النيل الأزرق.

وسبق أن شددت المصادر على أن إعلان التوصل إلى اتفاق هو في الحقيقة أقصى ما تطمح إليه مصر في الوضع الحالي، بغض النظر عن تأثير هذا الاتفاق واقعياً على حصتها من مياه النيل. وكذلك فإن إعلان التوصل إلى اتفاق هو أقصى ما يمكن لإثيوبيا منحه لمصر والسودان في الفترة الحالية، بغض النظر عن المحتوى، وذلك كله قياساً بتوقيع السيسي على اتفاق المبادئ في مارس/ آذار 2015، والذي كلف مصر تبعات سياسية وقانونية وفنية سلبية كبيرة لا يمكن تداركها حالياً، ولا تتيح للمفاوض المصري الكثير من الخيارات.

وكانت أزمة قد اندلعت بعد جولة التفاوض الفني الرابعة في أديس أبابا، الشهر الماضي، عندما رفضت إثيوبيا المقترح المصري الذي يتمسك بتدفق 40 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق سنوياً، وهو متوسط إيراد النهر في أثناء فترات الجفاف والجفاف الممتد، استدلالاً بما حدث في الفترة بين عامي 1979 و1987. وزعمت إثيوبيا أن المقترح المصري يتطلب ملء سد النهضة في فترة بين 12 و21 عاماً. وكانت قبلها تقول إنها تتوقع التوصل إلى اتفاق بالنظر لحالة فيضان النيل في السنوات الحالية، مع تأكيد تمسكها بأن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمانها من إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي ترى أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب. وردت مصر بالمطالبة بالرجوع للأطر السياسية والدولية الحاكمة للقضية، قبل اتفاق المبادئ، الموقّع بين الدول الثلاث في العام 2015، وعلى رأسها اتفاقية أديس أبابا في 1902، والتي تمنع الإثيوبيين من بناء أي أعمال إنشائية أو سدود على النيل الأزرق وغيره من روافد النيل إلا بإذن من الحكومة السودانية والحكومة البريطانية إبان احتلالها لمصر. كما لوّح الجانب المصري بالمطالبة باللجوء لمجلس الأمن واتباع إجراءات قانونية ذات طبيعة دولية لوقف أعمال السد التي تجري من دون إذن المصريين والسودانيين.