"الحرب الاقتصادية وانهيار سعر العملة اليمنية أشدُّ خطراً من الحرب العسكرية القائمة، وأسرع فتكاً بالوطن". هذا ما أقرّ به وزير الدولة اليمني محمد مقبل الحميري، تفاعلاً مع ما يعيشه اليمنيون بعد انهيار سعر الريال اليمني مقابل الدولار، وسط تحميلهم جميع الأطراف المنخرطة في الحرب، من الحكومة الشرعية والحوثيين والتحالف العربي، المسؤولية. وإن كان التحالف من وجهة نظر غالبية المواطنين وحتى السياسيين والاقتصاديين يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية نتيجة سياساته المتبعة منذ بدء تدخله في اليمن، والتي بلغت مرحلتها الأشد خطورة في الآونة الأخيرة، بعد إمعان الإمارات في تقويض سلطة الشرعية.
ومن لم يشر من اليمنيين بأصابع الاتهام مباشرة إلى التحالف السعودي الإماراتي كمتورط ومسؤول وبما لا يبرئ الحوثيين، فإنه يؤكد أن التحالف هو المعني بوقف الانهيار الاقتصادي، الذي يهدد حياة الملايين وينذر بتغييرات على كافة المستويات، على غرار ما حدث في مدينة تعز، جنوبي اليمن، أمس الثلاثاء. فقد خرجت تظاهرة شارك فيها محتجون غاضبون بسبب انهيار العملة المحلية وارتفاع الأسعار، ورددوا شعارات مناوئة لدول التحالف وطالبوها بالرحيل عن البلاد، على أثر الممارسات التي تقود البلاد إلى مجاعة شاملة. وهتف المشاركون "لا تحالف بعد يوم"، تفاعلاً مع الدعوات التي توجهت إلى "ثورة جياع" في مختلف المحافظات، سواء تلك الخاضعة للتحالف والشرعية أو لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، في صنعاء ومحيطها، كرد فعل على الانهيار الاقتصادي المريع الذي تشهده البلاد.
ووجّه السواد الأعظم من الرأي اليمني الاتهامات أو المطالبات للتحالف السعودي الإماراتي بتحمل المسؤولية، بوصفه متورطاً ومعنياً بالضرورة بالأزمة، وسط تباين التفسيرات لموقف دولتي التحالف، بين من نظر إليه كحالة من اللامبالاة، ومن أعرب عن اعتقاده بأن هناك سيناريو ما يختمر للمرحلة المقبلة، على غرار التمهيد لإسقاط الحكومة التي تعالت أصوات بعض مسؤوليها ضد تصرفات التحالف في أشهر سابقة. وقد عززت هذا الاعتقاد مجموعة الآراء التي تبناها حلفاء أبوظبي في "المجلس الانتقالي الجنوبي" الانقلابي، وذلك عبر محاولة توجيه السخط صوب الحكومة والدعوة إلى التحرك ضدها من جديد.
هذا التطور، دفع وزير النقل بالحكومة اليمنية صالح الجبواني، إلى اعتبار أن "ما يجري، محاولة جديدة لإسقاط الحكومة (من حلفاء أبوظبي)". وجاء في تغريدة على حسابه على موقع "تويتر"، يوم الاثنين الماضي، أن "الرئيس عبدربه منصور هادي والحكومة "هما المكونان السياديان اللذان بقيا من اليمن الواحد قبل الانهيار والتشظي، الذي تسعى له أطراف عدة على الأرض". وأضاف "حينما صمدت الحكومة في معركة يناير/ كانون الثاني 2018 (مواجهات عدن مع حلفاء الإمارات) ثم أزمة سقطرى (في مايو/ أيار الماضي)، تم دفع العُملة للانهيار، والهدف إسقاط الحكومة ثم ابتزاز الرئيس لتشكيل حكومة تضفي على التشظي والانهيار صبغة رسمية".
واتفق حديث الجبواني، الذي أشار بوضوح إلى أن "أزمة العملة لا تخرج عن معركة الشرعية مع الإمارات"، مع الأسباب المتداولة سواء في الأوساط الإعلامية أو لدى رجال الأعمال والصيارفة. ولخّص مالك إحدى شركات الصرافة والتحويلات، سبب انهيار سعر الريال اليمني أمام الدولار قائلاً إن "الإمارات تلعب". وشرح وجهة نظره قائلاً "هذه لعبة الإمارات، وهي التي تتحكم بالوضع في عدن والجنوب وتقوم بسحب العملة". ومعلوم أن الخلاف مع أبوظبي على رأس الأسباب التي أضعفت الحكومة الشرعية في المناطق التي انتُزعت فيها السيطرة من الحوثيين، وأنه العامل الذي منع الحكومة وهادي من الوجود في الداخل للقيام بالمهام الدستورية. وبدت الحكومة مكبّلة أكثر من أي وقتٍ مضى، حتى عن توجيه النداءات وعمل ما أمكن لوقف الانهيار.
وفي ظلّ الرأي الحكومي الخجول، الذي وضع المسؤولية بصورة غير مباشرة على التحالف بطلب الدعم اللازم، ذهب عددٌ غير قليل من اليمنيين إلى اعتبار أن "ما يجري ليس صمتاً من السعودية والإمارات فحسب، بل هو جزء من الحرب التي تنفذانها لتحقيق أجندة خاصة"، وذلك بعدما عزز واقع المناطق "المحررة" من الحوثيين صورةً بأن دعم "الشرعية" وإعادتها لم يكن سوى شعار. أما في ما يتعلق بالاقتصاد على نحو خاصٍ، تحديداً المحافظات الجنوبية والشرقية والوسطى، حيث الثروة النفطية والغاز، فإن حسابات التحالف الغامضة تمنع الحكومة من الاستفادة من هذه الموارد، فضلاً عن مصادرة قرارها بفرض سلطتها، والاقتصار على التعامل مع اليمنيين من خلال "السلال الغذائية" للمساعدات، التي تبدو دعاية أضعف من أن تغطي على حقيقة أن التحالف يخلق أكبر مجاعة وكارثة إنسانية تهدد أرواح الملايين، أو أن ذلك هو النتيجة الملموسة لحرب السعودية والإمارات منذ سنوات.
وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من السخط تركّز على التحالف، فقد وُجّهت أصابع الاتهام أيضاً للحكومة الشرعية، نتيجة ممارساتها طوال الفترة الماضية. وعلى الرغم من إصدارها العديد من القرارات والتصريحات، لم تظهر الاستنفار اللازم، ولا تزال تتصرف من خلف الحدود، ولا تختلف عنها كثيراً سلطة "الأمر الواقع" الحوثية، الممسكة بزمام الأمور في العاصمة ومحيطها من المحافظات، وما يرتبط بها من حركة مالية، دون أن تعمل على وقف الانهيار.
ومع ارتفاع صراخ الداخل اليمني، التي كانت مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً، مرآة له، وما تضمنه من انتقادات شديدة اللهجة للحكومة والتحالف السعودي الإماراتي والحوثيين، خرجت أصوات من أوساط المسؤولين في الشرعية لمحاولة امتصاص الغضب الشعبي ونفي المسؤولية من خلال التركيز على ما هو معروف بالأصل، ومفاده أن "يد الدولة مغلولة"، بتعبير عضو اللجنة الاقتصادية المشكّلة في الأشهر الأخيرة لاحتواء الأزمة، أحمد غالب، الذي خرج عن صمته، يوم الأحد الماضي، ولمّح إلى أن "الحكومة الشرعية مسلوبة القدرة على فعل شيءٍ"، في إشارة إلى وقوعها تحت ضغط التحالف وتأثيرات فقدانها السيطرة على العاصمة.
وأضاف أن "الأزمة أكبر من اللجنة الاقتصادية والحكومة؛ بل والدولة بكامل أجهزتها. الأزمة ليست اقتصادية فحسب، بل اقتصادية وسياسية وأمنية، وفي ظل انشطار المؤسسات السيادية وتعارض السياسات التي تتعامل مع اقتصاد واحد وعملة واحدة، تبقى أي إجراءات، غير التدخل المباشر الذي تفتقر إليه الدولة بسبب عجز الموارد، مهما كانت نجاعتها، محاولات للإصلاح ليس إلا ومن باب إذا لم تنفع لم تضر".
ومنذ أسابيع، يصحو اليمنيون صباح كل يومٍ على فاجعة أسعار جديدة للريال، والمتاجر تُغلق تباعاً على وقعٍ الانهيار الذي لا يستثني شيئاً، إذ يمكن أن "تشتري سلعةً ما صباحاً وتعود في المساء وقد اختلفت أسعارها"، كما يقول فيصل أحمد، وهو تاجر مواد غذائية بالجملة، اضطر لإغلاق أبواب متجره في مدينة إب اليمنية، منذ أيام. ويضيف لـ"العربي الجديد"، إن "العمل في هذا الظرف ومع استمرار غياب استقرار العملة، أصبح خسارة. هذه حرب ستقضي على ما تبقى من الحركة التجارية بحدها الأدنى". والأخطر بنظره هو "الشعور أن الأطراف جميعها تخلت عن المسؤولية أو فقدت السيطرة، وهذا ما يزيد المشكلة، لأنه كلما شعر المواطن والتاجر بالخوف ازداد الطلب على العملات الأجنبية".
ووسط أزمة العملة، بدا ألا قيمة لأخبار الحرب أو التصريحات السياسية والعسكرية، فمظاهر الحياة تأثرت في جميع المدن، وأصيبت بشلل نسبيٍ، وتوجه اهتمام عامة اليمنيين نحو الانهيار المرعب للريال وشبح الجوع الذي تتوارد أخباره بين المدن والقرى اليمنية التي يطحن الغالبية منها الفقر والأزمة الإنسانية منذ سنوات.