خلاف عادي بين شخصين في مدينة الجنينة، مركز ولاية غرب دارفور، تطور إلى مواجهات عنيفة في الولاية أسقطت أكثر من 48 قتيلاً وما يزيد عن 80 مصاباً، واستدعت استنفار الحكومة السودانية ومجلس السيادة لتهدئة الأوضاع وإعادة الحياة إلى طبيعتها في المدينة. وبقدر ما تُشكل هذه المواجهة فصلاً جديداً من النزاعات القبلية والتي تشكّل تحدياً حقيقياً أمام الحكومة، فإنّ مراقبين لا يستبعدون وجود جهات خفية تعمل على تغذية هذه الاختلالات الأمنية في البلاد، والتي تتيح للمكوّن العسكري في الحكومة الحصول على المزيد من السلطات على حساب المدنيين.
وبدأت الحياة تعود تدريجياً إلى طبيعتها في الجنينة يوم أمس الخميس، بعد مواجهة قبلية دامية شهدتها المدينة في الأيام الماضية، بدأت بشجار عادي بين شخصين انتهى بجريمة قتل، وسرعان ما تلتها عملية انتقام واسعة لم تسلم منها حتى معسكرات النزوح القريبة من المدينة، فتمّ حرق واحد من هذه المعسكرات بالكامل، فضلاً عن حرق سوق المدينة، إضافة إلى عملية تخريب واسعة، فيما كانت ردّة فعل الأجهزة الأمنية ضعيفة، ولم تعد انتشارها الأمني إلا بعد اليوم الثالث من المواجهات، فانتشرت قوة من الاحتياطي المركزي في شوارع الجنينة، بينما تمركزت قوات للجيش في المداخل الرئيسية لها.
وجاء انتشار القوات بعد اجتماع في الخرطوم، شاركت فيه قيادات أمنية رفيعة وأعضاء في مجلسي الوزراء والسيادة، ترأسه نائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتقرر فيه إرسال تعزيزات عسكرية إلى مدينة الجنينة. وبعدها توجه دقلو بنفسه مع رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، إلى المدينة في زيارة أكدا خلالها أهمية سيادة حكم القانون ومعاقبة كل المتورطين في الأحداث من دون اللجوء لخيارات كان يلجأ إليها النظام السابق، بدفعه ديّة نيابة عن المجرمين وتحقيق مصالحات اجتماعية، كما أكدا حرص الحكومة على تثبيت ركائز الأمن.
وتفاعل آلاف السودانيين في الخرطوم أمس الخميس مع ما يجري في الجنينة، وخرجوا في موكب وصل إلى مقر وزارة العدل، للمطالبة بسيادة حكم القانون وتقديم كل المتورطين في الأحداث للعدالة، خصوصاً أنّ هذه المواجهات حصلت في واحدة من أهم مدن إقليم دارفور، وأعادت إلى الأذهان الأحداث القبلية التي وقعت في مدينة بورتسودان، شرق السودان، والتي راح أيضاً ضحيتها العشرات من القتلى والمصابين في يونيو/حزيران الماضي، ومثّلت أول اختبار لحكومة ما بعد الثورة.
وعلى الرغم من التحسّن الأمني التدريجي في مدينة الجنينة، فإنه لا يمكن استبعاد المخاوف من تجدّد المواجهات القبلية، إن لم يكن في الجنينة ففي مدينة أخرى في إقليم دارفور المضطرب أو حتى في مدينة سودانية أخرى، وهو ما يجعل من موضوع النزاعات القبلية تحدياً حقيقياً أمام حكومة الفترة الانتقالية، وهو تحدٍ عجزت الحكومة السابقة عن التعاطي معه.
وللسودان تاريخ طويل مع النزاعات القبلية، ولا سيما في المناطق الواقعة غربي البلاد، وتُقدّر إحصاءات غير رسمية مصرع 250 ألف شخص ونزوح أكثر من مليونين ونصف المليون، بسبب هذا النوع من الصراعات، علماً أنّ أغلب القتلى والجرحى سقطوا في دارفور. ويمثّل غياب التنمية والوعي، وانتشار السلاح في أيدي القبائل، والاضطرابات الأمنية في دول الجوار السوداني، عوامل أساسية لتنامي ظاهرة النزاعات القبلية واستفحالها. كما أنّ للصراع التقليدي بين المزارعين والرعاة دوره الكبير في تفشيها، هذا عدا عن استغلال العصبية القبلية للحصول على مناصب دستورية، سواء على مستوى المركز أو الولايات.
وفي السياق، قال الأستاذ المحاضر في جامعة الفاشر، أنور هارون شمبال، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "أسباب اندلاع المواجهة القبلية في الجنينة، لا تنفصل عن جملة من الأسباب المعروفة، يضاف إليها حالة الغبن الاجتماعي الموجود في بعض المجتمعات"، موضحاً أنّ المشكلة الحالية بدأت بعد الثورة بأيام، فتم احتواؤها، لكنها تجددت للمرة الثانية بعد أشهر وسقط 4 أشخاص، فتم علاجها عبر "الأجاويد"، وهي صيغة وساطة محلية عادة ما يقوم بها زعماء القبائل، قبل أن تعود وتنفجر في بداية الأسبوع الحالي.
وحمّل شمبال مسؤولية استفحال أحداث الجنينة الأخيرة "للتراخي الحكومي وعدم التعامل بحزم عند اندلاع الشرارة الأولى"، معتبراً أنّ "هناك جهات مستفيدة من مثل هذه الأحداث، لا سيما الجهات المرتبطة بالنظام السابق أو تلك التي لا تريد نجاحاً للمفاوضات بين الحكومة والحركات المسلحة التي بدأت قبل فترة في مدينة جوبا بجنوب السودان".
ورأى الأستاذ الجامعي أنه "يجب النظر إلى موضوع النزاعات القبلية بنظرة قومية من قبل الحكومة الانتقالية التي ربما تجد نفسها أمام المزيد من النزاعات القبلية في الفترة المقبلة"، داعياً المجتمع السوداني "للتعاطي مع مقتل العشرات في دارفور بمثل تعاطيه مع أحداث أقل أهمية تحصل في مركز البلاد".
وبتحفّظ شديد، رحّب شمبال بتصريحات دقلو، الذي شدّد على سيادة حكم القانون وتحقيق العدالة تجاه المتورطين في أحداث الجنينة. وقال إنّ ذلك "لا يعدو كونه رأياً شخصياً من دقلو، لكنّ قوات الدعم السريع التي يتزعمها ليست بعيدة عن دوائر الاشتباه بالتورط في ما حدث في الجنينة"، مبدياً خشيته "من استغلال الاختلالات الأمنية في البلاد، بما يتيح للمكوّن العسكري في الحكومة الحصول على المزيد من السلطات على حساب المكوّن المدني".
من جهته، عزا الصحافي محجوب حسون، المقيم في مدينة نيالا بدارفور، تجدد النزاعات القبلية في الإقليم إلى الانتشار الكثيف لظاهرة حمل السلاح خارج أيدي القوات النظامية، وإلى حالة الغبن الاجتماعي منذ ثمانينيات القرن الماضي بعد ظهور مصطلح "العرب الرزقة" الذي بدأ في عهد رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي (1986-1989)، فضلاً عن التقسيم القبلي لجهة القرب والبعد عن الحكومة.
وأضاف حسون، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "هناك عوامل أخرى بدأت تغذي النزاعات القبلية في دارفور، مثل انتشار المخدرات والحدود المفتوحة مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، فضلاً عن انتشار البطالة وسط الشباب، وبروز طبقة تجار لا تمتلك أي قيم أخلاقية مجتمعية ولا وطنية، وكل همها الحصول على المال، هذا غير الاحتقان الذي خلّفه ترشيح تحالف الحرية والتغيير لأسماء غير مقبولة شعبياً لتولي مناصب الولاة في ولايات دارفور الخمس".
وأكد حسون أنّ "الأحداث في مدينة الجنينة يمكن أن تتكرر في أي مدينة أخرى في دارفور، عطفاً على التوتر الموجود اجتماعياً وسياسياً"، ونفى بشدة فرضية وجود طرف خفي مستفيد مما يدور، مؤكداً أنّ "كل أهالي دارفور غير مستفيدين لأنّ الموت لا يفرّق بين طرف وآخر". ورأى أنّ "الحكومة الانتقالية ستكون أمام تحدٍ كبير بشأن مجمل الأوضاع في دارفور، وإن فشلت فيه، فستُعبّد الطريق أمام تقسيم السودان لدويلات صغيرة".
أمّا الخبير الأمني، الفريق خليل محمد ناصر، فرأى أنّ "هناك فاعلاً خفياً وراء الأحداث في الجنينة، يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء وهزّ الثقة في التغيير الذي حدث في البلاد، فضلاً عن سعيه لوضع العقبات أمام مفاوضات السلام في جوبا". وأضاف ناصر، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ هذا الفاعل، الذي رفض تحديده، "لا يرغب في رؤية أي استقرار اقتصادي أو أمني في البلاد"، مشيراً إلى أنّ التعامل مع الأمر يحتاج لحكمة وصبر طويل بمعالجات لا تنتهي عند التعامل العسكري وحده، لكنها تشمل التوافق السياسي والاجتماعي، وإكمال التغيير الذي حدث في المركز، ونقله للولايات التي لم يعيّن لها حتى الآن ولاة مدنيون". ونفى ناصر وجود تقصير أمني في التعامل مع الأحداث، مشيرا إلى أنّ "الحكم المدني يأخذ وقتاً أكثر في ردة الفعل".