ومع أن هذه القاعدة تسري إلى حدّ بعيد على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلا أن الأخير أراد أيضاً تسجيل استثناءٍ يختلف به عن أغلب نظرائه. فمنذ بداية أزمة الوباء، وهو يُغلّف الأسئلة الداخلية بألوانٍ أوروبية ودولية، ويوجّه الرسائل والغمزات إلى الخارج بين قضية محليّة وأخرى. لم يرد ماكرون معالجة الجائحة على المستوى الفرنسي فقط، فالأزمة أوروبية ودولية بالنسبة إليه، ولا حلّ لها إلا بتكاتفٍ يتجاوز الحدود القومية. موقفٌ أظهر الرئيس الفرنسي بصورة كمن يحمل همّ العالم ومسؤوليته، ما جلَبَ له إشادات الصحافة الغربية، فوصفته مجلة "دير شبيغل" الألمانية، على سبيل المثال، في 16 مارس/ آذار الماضي، بأنه "ظهر كرئيسٍ مسؤول، واعٍ لخطورة الموقف، ويمكن الاعتماد عليه في أوقات كهذه". بل إن اعترافات بالإعجاب بـ"قيادته"، جمعت تحت مظلّتها أسماء شديدة الاختلاف، مثل رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، والمغنية الأميركية ليدي غاغا.
لكن السؤال يبقى مطروحاً حول معنى موقفٍ كهذا. هل ينمّ عن فرادة الرؤيا الفرنسية على المستوى الأوروبي الدولي، أم أنه ترجمة لعزلة وقلّة حيلة؟ الأكيد أن فرنسا تحدثت، حتى الأيام القليلة الماضية، لغةً مختلفة عن لغة البقاء الفردي والقومي التي سادت في التعامل مع الوباء منذ تفشيه في الغرب، وكانت آخر البلدان الغربية التي تحدثت عن حلولٍ فردية ولجأت إليها. ففي وقت أغلقت فيه الولايات المتحدة في 11 مارس الماضي حدودها أمام الأوروبيين، وقامت ألمانيا في 15 من الشهر ذاته بإغلاق ومراقبة حدودها مع فرنسا والبلدان المجاورة، واختارت التصرّف ببراغماتية إزاء الوباء وعدم تضييع الوقت في انتظار اجتماع الأوروبيين لاتخاذ قرار مشترك، كان الرئيس الفرنسي يحذّر، في خطابه الذي ألقاه في 12 مارس، من خطر "الانغلاق القومي"، قبل أن يعود، في خطابه التالي، يوم 16 من الشهر ذاته، ليقول بتوصّل الأوروبيين إلى اتفاق على إغلاق حدود الاتحاد ومنطقة شنغن 30 يوماً على الأقل. لم يبدُ للحظةٍ، في هذين الخطابين، أن كلمة "حدود" تعني حدوداً وطنية بالنسبة إلى ماكرون، الذي تحدّث كقائدٍ أوروبي باسم القارّة القادرة على تقديم "ترياق إلى العالم" ينقذه من فيروس كورونا.
وعلى الرغم من تكرار ماكرون، في خطابي 16 و25 مارس، القول إن فرنسا "تخوض حرباً" ضد "عدوّ خفيّ" هو كورونا، إلا أن خياراته كانت أبعد ما تكون عن خيارات بلد "منخرطٍ بكل جوارحه في الحرب"، كما قال. ويرى منتقدو الرئيس الفرنسي أن التغنّي بالتعاضد الأوروبي والدولي، يُخفي وراءه ضعف فرنسا وقلّة جاهزيتها لمواجهة أزمة كهذه بمفردها، كما يرون في الخطابات البلاغية والحربية للرئيس، وسيلةً للتستّر على تقصير الحكومة الفرنسية على أرض الواقع.
وفي وقت كانت فيه فرنسا، مع إيطاليا وإسبانيا وغيرهما من البلدان الأوروبية، تضغط، بداية شهر إبريل/ نيسان الماضي، نحو الوصول إلى اتفاق اقتصادي على مستوى الاتحاد الأوروبي ينقذ اقتصادها، وهو اتفاق نجحت هذه البلدان في انتزاعه بعد طول عناء، بدت بلدان مثل ألمانيا وهولندا متحفظةً، وملتفتة إلى مصالحها الخاصة قبل أي شيء. صحيح أن البعض تحدث عن "أنانية" التصرّف الألماني في سياق كارثيّ كهذا، إلا أن الأكيد هو أن برلين لم تبدُ بحاجة إلى الاستثمار الرمزي أوروبياً، والتغني بالوحدة والتعاضد كما فعلت فرنسا، لأنها، بكل بساطة، بدت أكثر جاهزية من جارتها، وأكثر قدرة منها على الاعتماد على نفسها.
احتاج ماكرون أسابيع لتغيير خطابه الذي لم يُقنع الفرنسيين، الشاهدين على الهوّة الكبيرة بينه وبين الواقع، وراح يخفّف من العبارات الطنّانة ومن كيل المدائح، ليتحدث، في كلمته التي ألقاها يوم 13 إبريل، بواقعية أكبر. لكنه لم يتخلَّ عن تطلّعه دولياً، بل غيّر في نبرته فحسب، ليبدو أكثر تواضعاً هو الآخر، "لأننا، اليوم، في بيرغامو ومدريد وبروكسل ولندن وبكين ونيويورك والجزائر العاصمة أو في داكار، ننعى أشخاصاً يموتون بالفيروس نفسه. إنْ كان عالمنا ذاهباً إلى التفكّك، فمن مسؤوليتنا اليوم بناء أشكال جديدة من التضامن والتعاون".
هذا التطلع المستمر إلى ما وراء الحدود الفرنسية، خلال أزمة كورونا، يبدو متناسقاً مع رغبة الرئيس الفرنسي، منذ بداية ولايته عام 2017، في الظهور بمظهر مَن يمثّل صوت العقل، في زمن تزدهر فيه الشعبويات اليمينية، من الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى نظيره البرازيلي جايير بولسونارو ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وتزدهر معها ثقافة المهاترات الشخصية والحكْم وفقاً لتقلّبات العاطفة. ويبدو أن صوت العقل بالنسبة إلى ماكرون يعني، من بين ما يعني، إظهار الوعي عبر تبنّي قضايا الساعة دولياً، والحديث بلغة الجماعيّ و"الكونيّ" مع الإعلاء من قيمتهما، ومحاولة العمل بفعالية مع كل الأطراف، وتجنب العداوات قدر الإمكان، والتصرف مع الجميع بوصفهم أصدقاء. فهو يلتقي بنظيره الروسي فلاديمير بوتين عشية لقائه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وبقية مسؤولي مجموعة السبع، ويعلن "دعمه الكامل" لترامب في وجه إيران التي لن يتردد، بعد أسابيع، عن التواصل مع رئيسها والعمل لدعمها أوروبياً، ما سيغضب ترامب.
يتماشى ماكرون مع التيار وحاجة اللحظة، من دون الثبات على موقف مبدئي، ومن دون المبادرة بفتح معارك لا رجعة فيها. ينتقد الصين، بحذر، على إخفائها المحتمل لمعلومات عن إدارتها أزمة كورونا بعد أن انتقدتها الولايات المتحدة وأستراليا، لكنه لا يذهب إلى حدّ القطيعة، تاركاً الباب مفتوحاً على الرغم من الأخذ والردّ الذي جرى أخيراً بين السفارة الصينية في باريس والدبلوماسية الفرنسية.
غير أنّ سياسة "الاعتدال" والمرونة القصوى تصل أحياناً بالموقف الفرنسي إلى حدود اللاموقف، الذي ينمّ، في إحدى القراءات، عن قلّة الأوراق في يد الرئيس الفرنسي، واضطراره إلى العمل في إطار إجماعي ولعب دور الوسيط بين قوى أخرى تتصرف، كما يبدو، وفق خطوط عريضة أكثر رسوخاً. من ناحية أخرى، يمكن قراءة مقاربة ماكرون بوصفها التزاماً، بات نادراً في زمن السياسات الفردية والقومية، بالعمل ضمن الأطر الدولية بوصفه الحلّ الأنسب لكل الأطراف.
على أي حال، تبدو الرئاسة الفرنسية مؤمنة بسياسة المرونة والوساطة والتنسيق الجماعي، التي باتت منهجاً لرؤيتها الخارجية. ولعلّ محاولات فرنسا المكثفة، هذه الأيام، لجمع مسؤولي مجموعة الخمس، المتفرقين، لمناقشة رؤية مشتركة حول جائحة كورونا وأزمات أخرى تلمّ بالكوكب، مثالٌ على هذا المنهج.