جرائم "الجنجويد" من دارفور إلى الخرطوم

07 يونيو 2019
فُضّ اعتصام الخرطوم بالقوة (الأناضول)
+ الخط -
بعد أقلّ من شهرين على إطاحة الرئيس السوداني عمر البشير، وانغماس البلاد في تظاهرات شعبية مطالبة بحكم مدني، سعى المجلس الانتقالي العسكري إلى تطويق حركتهم، عبر مماطلته في المفاوضات الهادفة لتأمين مرحلة انتقالية. في الواقع كان العسكر يستعدّ لمرحلة دموية، بعد زيارات عدة لقيادات المجلس إلى الإمارات والسعودية ومصر. وبرز المشهد الدموي بقوة فجر الاثنين الماضي، مع اقتحام "قوات الدعم السريع" (الجنجويد) ساحة الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة في الخرطوم، وتنفيذ مذبحة تضمنت قتل المعتصمين وإلقاء جثثهم في نهر النيل، وارتكاب جرائم الاغتصاب والتنكيل والتمثيل بالجثث، في تكرار لما فعلته وتفعله في إقليم دارفور منذ عام 2003. ناهيك عن تركها الأسلحة في الأحياء لحضّ الناس على العنف. والواقع أن قائدها في دارفور هو نفسه من يعتبر ذاته "الرجل القوي" بين العسكر، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ"حميدتي". وحتى يوم أمس، الخميس، كان إحصاء عدد الضحايا مستمر، وقد بلغ أكثر من 110 ضحايا.

قوات الدعم السريع هي مليشيا بنيتها الرئيسية قبلية، تابعة للحكومة السودانية تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني. وقامت بحملتين لمكافحة التمرد في إقليم دارفور المحاصر منذ وقت طويل في عامي 2014 و2015. كما هاجمت القرى بشكل متكرر، وأحرقت ونهبت البيوت، وقامت بأعمال اغتصاب وإعدام. وحصلت قوات الدعم السريع على غطاء جوي ودعم بري من القوات المسلحة السودانية وغيرها من المليشيات المدعومة من الحكومة. وقعت الحملة الأولى التي أطلق عليها اسم "عملية الصيف الحاسم" في البداية في جنوب دارفور وشماله بين أواخر فبراير/ شباط وأوائل مايو/ أيار 2014. أما الثانية، وهي "عملية الصيف الحاسم 2"، فدارت في البداية في وحول منطقة جبل مرة الجبلية الواقعة بالأساس في وسط دارفور، بدءاً من أوائل يناير/ كانون الثاني 2015، حتى اليوم. ومع هذا، فقد تناقصت وتيرة الهجمات بشكل كبير مع بداية الموسم المطير في يونيو/ حزيران 2015.

وقابلت منظمة "هيومن رايتس وووتش" أكثر من 151 من الناجين والشهود على الانتهاكات في دارفور، الذين فروا من السودان إلى تشاد وجنوب السودان، إضافة إلى إجراء مقابلات هاتفية مع 44 من الضحايا والشهود في دارفور. وتوصلت إلى أن قوات الدعم السريع ارتكبت طيفاً واسعاً من الانتهاكات المروعة، بما في ذلك تهجير مجتمعات بالكامل قسرياً، وتدمير الآبار ومخازن الغذاء وغيرها من البنية التحتية اللازمة لاستمرار الحياة في بيئة صحراوية قاسية، ونهب الثروة الجماعية للعائلات، مثل الماشية. كان التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء والاغتصاب الجماعي من بين أبشع الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين. وتعرض الكثير من المدنيين إلى القتل على يد قوات الدعم السريع عندما رفضوا مغادرة منازلهم أو تسليم مواشيهم، أو عندما حاولوا منع مقاتلي قوات الدعم السريع من اغتصابهم أو اغتصاب أفراد أسرهم.

كان الهجوم على بلدة قولو، في وسط جبل مرة، دليل على فظاعات قوات الدعم السريع. كان جيش تحرير السودان ــ فصيل عبد الواحد النور المتمرد، يتمتع بسيطرة متنازع عليها على قولو على فترات مختلفة منذ بداية النزاع في دارفور في 2003، لكن البلدة كانت خلال السنة الماضية واقعة تحت سيطرة تامة من جانب الحكومة. في 24 يناير 2015، سيطرت قوات الدعم السريع على البلدة، فأحرقت المباني وقامت بعمليات نهب. وقابلت "هيومن رايتس ووتش" 21 شخصاً، ممن كانوا في قولو والقرى المجاورة لها في ذلك الوقت. قال كل من أجريت معهم المقابلات إنهم شهدوا عمليات قتل واغتصاب وضرب وسلب على نطاق واسع.
بدوره، كان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية قد تلقى تقارير بأن ما يصل لـ130 ألف شخص ما زالوا نازحين في مناطق بعيدة عن متناول وكالات الإغاثة الإنسانية. وفي ظل نقص ما يكفي من الغذاء والمأوى والرعاية الطبية، وعدم القدرة على العودة إلى بيوتهم أو مزارعهم، يظل هؤلاء يواجهون خطر الموت بسبب الجوع أو المرض أو التعرض إلى العوامل الجوية. كما تحدثت المنظمة أيضاً مع خمسة منشقين من القوات الحكومية السودانية: عضوان من قوات الدعم السريع، وجنديان من القوات المسلحة السودانية، وعنصر من حرس الحدود. شارك أربعة من المنشقين في الهجمات في جبل مرة أو شرق جبل مرة. وانشق الخمسة جميعاً إلى المعارضة بعد مشاركتهم في حملتي مكافحة التمرد بقيادة قوات الدعم السريع، وفي كل مرة شهدوا انتهاكات خطيرة على أيدي الجنود. قال أربعة من الخمسة إن القادة من الضباط أمروا وحداتهم بتنفيذ فظائع ضد المدنيين. وأقر واحد بارتكاب جرائم خطيرة بنفسه.

وقد تغاضت القوات الحكومية عن هذه المجازر وشاركت بشكل مباشر في عمليات إعدام سريعة للمدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، وفي حرق البلدات والقرى والإخلاء القسري لمناطق واسعة كانت مأهولة بالفور والمساليت والزغاوة. وقامت "الجنجويد" بتدمير المساجد وقتل رجال الدين والعبث بنسخ القرآن التابعة لأعدائها.

كما أقدمت الحكومة وحلفاؤها "الجنجويد" على اقتياد أكثر من مليون مدني، معظمهم مزارعون، إلى معسكرات ومستوطنات حيث يعيشون على الكفاف خاضعين لإساءات "الجنجويد". وقد فر أكثر من 110 آلاف آخرين إلى تشاد المجاورة، ولكن الغالبية الساحقة من ضحايا الحرب لا تزال عالقة في دارفور. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية، عام 2009، قراراً بتوقيف البشير على ذمة قضايا جرائم حرب متهمة "الجنجويد" بارتكابها بغطاء حكومي. وكانت الاتهامات بارتكاب جرائم حرب قد طاولت، إلى جانب البشير، وزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم أحمد حسين، ووالي شمال كردفان السابق أحمد هارون، إضافة لأحد قادة العمليات العسكرية في الإقليم، علي كوشيب.

وبرز اسم زعيم قبيلة "المحاميد"، موسى هلال، كقائد لـ"الجنجويد"، ولا سيما بعدما ساهم في فترة من الفترات في استنفار أهله للقتال مع الحركات المسلحة جنباً إلى جنب مع الحكومة، باعتباره الزعيم القبلي والسياسي لهم ويدينون له بالولاء. كما برز القائد الميداني لـ"قوات الدعم السريع"، حميدتي، الذي أصبح عام 2014 حديث الوسط السوداني، وخصوصاً أن وسائل الإعلام قد سلّطت الضوء عليه بشكل مكثف.

ويُعدّ حميدتي، بحسب مقربين منه، من تلاميذ ابن عمه موسى هلال، وكان ضمن "حرس الحدود" الذي ساهم بشكل كبير في استقطاب القبائل العربية. لكنه عاد وتمرد على الحكومة عقب التوقيع على اتفاق أبوجا، مع مجموعة من الفصائل الدارفورية بقيادة حركة "تحرير السودان" (جناح مني أركو مناوي) في عام 2006. وسحب حميدتي قوة من "حرس الحدود"، يملك تأثيراً قبلياً عليها، وانضم إلى إحدى الفصائل الدارفورية المتمردة. لكن الحكومة، في حينها، نجحت في إقناعه بالعودة إلى أحضانها، بعدما وافقت على طلباته، وأعطته تطمينات، ووعدت بترقيته، فتمت المصالحة في النهاية، ليصبح داعماً لـ"قوات الدعم السريع". وكتب المحرر باتريك سميث في مجلة "ذا أفريكا ريبورت"، عن حميدتي: "كان حديث النخبة في الخرطوم، أن الرجل (حميدتي) ذهب بعيداً في الأمور التي فعلها في دارفور. ولا يمكن السماح له بذلك في الخرطوم".
المساهمون