رسا اختيار الرئيس التونسي قيس سعيد للشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة، على المهندس والسياسي الياس الفخفاخ. ومنذ توليه الرئاسة، كانت حركات وسكنات سعيد محلّ جدل كبير بين الرأي العام التونسي، جمعت حوله الآراء المتضادة والمتناقضة تماماً، ولكن اختياره للفخفاخ هذه المرة، من بين ما يفوق العشرين مرشحاً، أثار جدلاً واسعاً حول الدوافع التي جعلته يقع على هذا الاختيار، وزادت هالة الغموض حوله.
استعمل سعيد صلاحياته الدستورية المنصوص عليها بالفصل التاسع والثمانين من الدستور، والتي تتيح له اختيار الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة، وبعد أن اقتصرت المشاورات على تقديم مقترحات كتابية وردت من الأحزاب الممثلة في البرلمان، انتهى سعيد لاختيار الفخفاخ من أصل ثلاثة مرشحين التقاهم، بينهم قاسم مشترك وحيد، وهو توليهم لحقيبة المالية في حكومات ما بعد الثورة.
ولم يفسّر الرئيس التونسي اختياره، مكتفياً بتعليق وحيد إثر تسليم رسالة التكليف، موجها رسالة "للجميع"، مفادها بأنه "احترم الشرعية الدستورية"، وأن الفخفاخ اقترحته أطراف سياسية، وكل يتحمّل مسؤوليته أمام التونسيين، في مرحلة يعتبرها الأدق، تعيش فيها البلاد تحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية كبيرة، والمهم وجود الإرادة والعزم والإخلاص، وأن تكون البوصلة الشهداء والجرحى، وأنات العاطلين والمهمشين والمفقرين.
ولم يقع اقتراح الفخفاخ من الحزبين الأغلبيين، "النهضة" و"قلب تونس"، ولم يكن إلا مرشح حزبَي "التيار الديمقراطي" و"تحيا تونس"، واعتبر متابعو الشأن السياسي أن تكليفه يطرح أكثر من تساؤل، خصوصاً في ما يتعلق بمدى وجاهته، وهو الذي لم تتجه إرادة الناخبين لاختياره أو للتصويت لحزبه في الانتخابات التشريعية والرئاسية، في حين تجاهل الرئيس مرشحين آخرين، حققوا نتائج أفضل منه، مثلما ورد بتدوينة لرئيس كتلة "ائتلاف الكرامة" سيف الدين مخلوف، وعدد من قيادات حزب "قلب تونس" أيضاً.
من جانبه، قال المكلف بتكوين الحكومة إلياس الفخفاخ في تصريح رسمي، إنه ملتزم بنتائج الانتخابات التي أبرزت رغبة في التغيير الجدي، لذلك ستكون حكومته متناغمة مع ما عبّر عنه التونسيون من إجماع على الحرص على التغيير الجدي في السياسات العامة ومؤسسات الدولة الصادقة والعادلة المنصفة لكلّ الجهات، والتي تنهي عقوداً من الفقر والتهميش، وقدّم ملامح حكومته التي ستكون مصغرة ومنسجمة، بفريق يجمع بين الكفاءة والإرادة السياسية القوية، والوفاء لأهداف الثورة والثوابت الوطنية، وتعمل في ظل التعاون المستمر مع رئاسة الدولة بهدف تظافر الجهود لإنقاذ البلاد من الأزمة.
وتعهد رئيس الحكومة المكلّف بالامتناع عن الدخول في أي مناكفات سياسية، والتركيز فقط على العمل من أجل رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مع الالتزام بفتح المجال لأوسع حزام سياسي ممكن، بعيداً عن الإقصاء والمحاصصة، والوفاء للتوجه الأغلبي. واقتبس رئيس الحكومة المكلف شعار حكومته من شعار "التيار الديمقراطي"، قائلاً إنها ستسعى لتحقيق أسس الدولة القوية الصادقة والعادلة.
وبهذه المعالم، أقنع الفخفاخ رئيس البلاد قيس سعيد باختياره، على الرغم من كل ما رُوّج له عن تدخل لوبيات للضغط لصالح مرشح آخر، ويبدو أن لقاءات اللحظة الأخيرة التي أجراها الرئيس مع رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، وأمين عام منظمة "العمال"، ساعات قبل الإعلان عن قراره، كانت حاسمة في اختيار الرئيس لمرشحه، وبدا الفخفاخ أيضاً مقنعاً للأحزاب التي تدعمه، وتعتبره قادراً على قيادة "حكومة إنجاز"، على حدّ توصيف القيادي بحزب "تحيا تونس" مروان الفلفال، في حديثه إلى "العربي الجديد".
وثمّن الفلفال اختيار الرئيس لمرشح الحزب ذي الكفاءة والقدرة والبرنامج الإصلاحي القادر على إنقاذ البلاد، مضيفاً أن الفخفاخ يُعدّ مرشحاً توافقياً، يستطيع الجلوس مع جميع الأطراف السياسية، وإقناعها برؤاه وبشراكة سياسية واسعة، وحشد دعم المنظمات الوطنية حوله.
ولا يرى الفلفال بالأهمية القصوى، انتقاد سياسيين لهذا الاختيار، واعتبار الفخفاخ امتداداً لزعيم "تحيا تونس" يوسف الشاهد الذي بدت بصماته واضحة في هذا التكليف، مشيراً إلى أن "المرحلة تقتضي إصلاحات، واقتراح "تحيا تونس" لهذه الشخصية دافعه اقتناعه بها، لا بحثه عن امتداد في الحكم".
وبقدر ترحيب "التيار الديمقراطي" أيضاً بالرئيس المكلف، فإنه لا يقدّر أن اقتراحه له هو صك على بياض، وأنه ملزم بالتصويت له، بل سينتظر برامجه وتشكيلة حكومته، وبناءً على ذلك، سيقرّر إنجاح حكومته، وجمع حزام نيابي له، وعدم التخلي عنه، وفق ما أكده نائب الأمين العام للحزب محمد الحامدي، الذي حيا في تصريحه لـ"العربي الجديد" اختيار الرئيس قيس سعيد لوجه ذو تلوين سياسي مختلف، وذو بعد اجتماعي ينتمي لتونس بعد الثورة، وجامعاً للمعرفة الاقتصادية والخبرة السياسية. وأشاد بعدم اختيار سعيد للصيغ السهلة بعملية حسابية لأكثر المرشحين دعماً نيابياً، وإنما مارس دوراً تحكيمياً.
ومن المؤكد أن رئيس الجمهورية لعب دوراً تحكيمياً في اختيار الشخصية التي اختلفت ردود الفعل حولها حدّ التناقض، سيما وسط تخوفات من أن ترفضه "النهضة" نتيجة توجهه التحرري في ما يتعلق بالحريات ومسائل ثقافية ومجتمعية، على غرار المساواة في الإرث، وضمان حقوق الأقليات الجنسية. وجاء موقف "النهضة" مخالفاً للتوقعات، فهي تعدّه صديقاً قديماً وشريكاً في حكم فترة الترويكا.
وصرح الناطق الرسمي باسم "النهضة" عماد الخميري لـ"العربي الجديد "، بأن حزبه ليس له فيتو على الفخفاخ، ولا على أي شخصية أخرى، مذكراً أنه عمل مع حكومات "النهضة" ولا خلافات لها معه. وأبرز أن الحزب سيحدّد موقفه منه على ضوء المشاورات وطبيعة البرنامج الذي سيقدّمه، ليكون لمؤسسات الحركة الكلمة الفصل في الدعم من عدمه.
إلى ذلك، يُعدّ موقف "قلب تونس" الأكثر اعتراضاً على الإطلاق، وفق متابعي الشأن السياسي، فمرشحه فاضل عبد الكافي لم يحظى بثقة الرئيس، بعد أن كان قائداً لعملية إسقاط حكومة الحبيب الجملي الذي كلفته "النهضة"، متأملاً أن يفتك منها دفة القيادة لصالحه، وهو خاض حوارات مع حزب "تحيا تونس"، على أمل التنسيق في المواقف في هذه المرحلة، بيد أنه وجد نفسه مجدداً خارج اللعبة.
وكانت قيادات "قلب تونس"، منذ الإعلان عن التكليف رسمياً، الأكثر شراسة في انتقاد الفخفاخ، واصفة ما حدث بالقفز على الانتخابات ونتائجها. وتساءل القيادي بـ"قلب تونس" أسامة الخليفي في تصريح صحافي: "لماذا أجريت الانتخابات؟"، مردفاً أن الحزب لا يرى في الفخفاخ الشخصية الأقدر لقيادة المرحلة وتجميع حزام سياسي حوله، خصوصاً أن حزبه لم يفز في الانتخابات. وأوضح الخليفي أن مؤسسات الحزب ستجتمع لتحديد موقفها من هذا التكليف.