سحر السياسة في تونس

12 يناير 2020
سينغمس سعيّد في تفاصيل السياسة (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
تبدو الساحة السياسية التونسية في شكل مسلسلٍ تلفزيوني تتلاحق أحداثُه، في رحلة تشويقٍ لا تنتهي، يتغير أبطالُها من أسبوعٍ إلى آخر، ويختلط فيها البريء بالخبيث، والثوري بالوصولي، وتنقلب فيها الأحلاف بسرعة البرق، حتى أن المشاهد لا يكاد يستقر على وضعية، حتى يجد نفسه في الحلقة التالية في وضعية مناقضة. مسلسلٌ أتقن مخرجه "الدراماتورجيا" بما يليق بمستوى أحد أعمال هوليوود، يقارب مسلسل "دالاس" الشهير، الذي تابعه الملايين في العالم القرن الماضي. وفي حلقة منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي، يوم الجمعة الماضي، تابع التونسيون انقلاب الأحزاب، وتغير مواقفها بين عشية وضحاها، وكانت الأفواه مفتوحة بالدهشة مما تسمع آذانها، وهي لا تصدق كيف أن الشخصيات التي كانت تشكر الجملي وفريقه، سلّطت عليهما سياط نقدها، وكيف تحول مادحو هذه الحكومة منذ أيام، إلى المطالبين بإسقاطها، بينما تحول بعض معارضيها إلى مدافعين شرسين عنها.

وشاهد الجميع اتحاد الأضداد، ووقوفهم في صورةٍ جماعية أذهلت الكثيرين، وحدتهم "الأهداف النبيلة" المتمثّلة في إسقاط هذه الحكومة ومن يقف وراءها مهما كان الثمن، وبعدما كانوا يشمئزون من حزب نبيل القروي، "قلب تونس"، ويتهمون حركة "النهضة" بتبييض الفساد عبر التحالف معه، رآهم الجميع ينسقون معه ويستشرفون مستقبل الأحداث، قبل أن يستفيقوا بسرعة ويستعيدوا بعض المسافة.

كل هذا ورجل القصر، قيس سعيّد، يشاهد ويراقب، يتفرج كيف يتكسر الجميع على تناقضاتهم وحساباتهم الصغيرة، وينتظر أن تؤول إليه الأحداث، تماماً كما حدث خلال الانتخابات الرئاسية، يبقى بعيداً عن ساحة المعركة وينأى بنفسه عن حرب الشوارع، ويتفرج كيف يسقط ريش من كل ضحية وتتكسر عظامٌ من كل محارب، ثم يلتفت إليه الجميع حكماً يوقف المعركة ويعلن الهدنة ويفصل بين المتنازعين.

غير أن هذه المرة ليست كسواها، لأنه سيكون على سعيّد أن يترجل من مقامه وينزل إلى الساحة بعيداً عن عالم المثل الذي يدعو إليه، وهؤلاء أنياب شرهة تفتك بكل من يعترضها ولا تقيم اعتباراً لأحد إذا وقف في طريقها. وسيبدأ الرئيس في اكتشاف الواقع كما هو، وسيلطخ يديه بتفاصيل السياسة وترتيبات المشاورات ومشاق الترضيات وقسمة كعكة ضئيلة على أفواهٍ لا حدّ لنهمها.

السياسة في تونس فرجة لذيذة، لولا أنها طالت كثيراً على المتفرجين الصبورين الذين ينتظرون فرجاً قريباً ويسراً بعد عسر، وهي بالفعل ساحرة، إلا أن السحر قد ينقلب على الساحر، وسينقلب عليه بالتأكيد، لأن التونسيين أثبتوا أنهم ناقدون محترفون أسقطوا أعتى المخرجين وأشطر الممثلين، ولكن كثيرين لا يعتبرون.

المساهمون