ليبيا: أفكار المبعوث الأممي حول سبل الحل تصطدم بأجندات متصارعة

28 اغسطس 2017
أجرى سلامة جولات عديدة داخل ليبيا أخيراً(عبدالله دوما/فرانس برس)
+ الخط -
يأتي تكليف غسان سلامة مبعوثاً جديداً للأمم المتحدة إلى ليبيا، في يونيو/ حزيران الماضي، في وقت اتخذت فيه الأزمة الليبية أشكالاً جديدةً بعد طول صراع سياسي ومسلّح على جبهات عدة، وفي ظل وجود أطراف متشابكة. وبدت مهمته شبه مستحيلة بسبب حدة الأزمة في البلد الغارق في الفوضى الأمنية، والذي تتقاسمه أطراف في الشرق والغرب، أبرزها "حكومة الوفاق" في طرابلس، وقوات يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والذي يحظى هو الآخر بدعم دول عربية وأجنبية. وتواجه قوات حفتر فصائل وكتائب مسلحة في مصراتة وطرابلس وغيرها من المدن، والتي ترفض عودة حكم العسكر.

وأرسلت الأمم المتحدة حتى الآن خمسة مبعوثين أممين. لكن لا يبدو أن أعمالهم حققت اختراقاً إيجابياً في جدار الأزمة المستعصية، لا سيما أن أغلب الأطراف الليبية كانت تعبّر عن امتعاضها من التدخّل الأجنبي، وتعتبر أن مبعوثي الأمم المتحدة جاؤوا لتحقيق أهداف ومصالح دول كبرى. بيد أن اللافت في تولّي غسان سلامة المهمة هو وصول الأطراف المتصارعة إلى شكل من أشكال التقارب، بعد سنين من الحرب وتزايد الأزمة الاقتصادية والتشظي السياسي. كما أن نجاح "حكومة الوفاق" في فرض هيبتها في طرابلس وحصولها على مؤيّدين في "برلمان طبرق" ساهما في تليين مواقف الأطراف الأخرى ومن أبرزها مواقف حفتر الذي يستخدم قوة السلاح للوصول إلى السلطة.

وكانت أولى محطات سلامة ظهوره المفاجئ في باريس إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي رعى لقاءً بين خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، نهاية يوليو/تموز الماضي. ونتج عن اللقاء "إعلان باريس" الذي عكس تخفيفاً من حدة مواقف حفتر، كونه أعلن عن قبوله الاتفاق السياسي وذهاب البلاد إلى انتخابات عاجلة نهاية هذا العام. وبعدما كان قد مرّ وقت طويل على المساعي الإقليمية والدولية من أجل عقد لقاء ثنائي يجمع بين السراج وحفتر، حمل لقاء باريس مؤشرات تحوّل الملف الليبي إلى ملف ذي اهتمام دولي، لا سيما بعدما تفجّرت الأزمة بين فرنسا راعي اللقاء، وإيطاليا المقربة من "حكومة الوفاق" وأبرز مؤيديها، وفي ظل استمرار تحرّك روسيا على خط الأزمة ودعمها لحفتر.

وبعد مرور أكثر من شهر على تولّي سلامة منصبه رسمياً، تبقى التساؤلات مطروحة عن فرصه وحظوظه في تسوية الملف الليبي الذي بدأ رحلة وساطته بشأنه، عبر زيارات متعددة لمختلف الأطراف والمدن الليبية. فبعد لقاء السراج، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، عبد الرحمن السويحلي، التقى سلامة برئيس البرلمان، عقيلة صالح، لينتقل للقاء أطراف أخرى من خلال زيارته مدناً مؤثرة في المشهد كمدينة مصراتة والزنتان في غرب البلاد، كذلك التقى أخيراً ممثلي الجنوب الليبي في البرلمان.
وبموازاة تحركاته داخل ليبيا، قام سلامة بزيارات لم تتوقّف إلى عواصم الدول الأجنبية مثل فرنسا وإيطاليا، والعربية كمصر وتونس فضلاً عن زيارة الجزائر. وقال سلامة في تصريحات أدلى بها خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية الجزائري، عبد القادر مساهل، عقب لقاء بينهما في العاصمة الجزائر، أول من أمس السبت، إنه "من الطبيعي زيارة الجزائر، لكونها بلداً مهتماً بليبيا وتشترك معها في أكثر من ألف كيلومتر من الحدود". وأضاف أن "الجزائر على معرفة قديمة ووثيقة وعميقة بالأحوال الليبية، وجاءت زيارتي لعرض أفكار، بغية مساعدة الليبيين للخروج من هذه الأزمة"، وفق تعبيره. واستطرد في السياق ذاته قائلاً إن "الشعب الليبي يستحقّ مستقبلاً أفضل من الحاضر". وتابع "جئت أيضاً للاستماع إلى نصائح من لهم باع طويل بالمجال الليبي، خصوصاً بوجود الوزير مساهل الذي يتعاطى مع الشؤون المغاربية منذ أكثر من أربعة عقود"، بحسب تصريح سلامة.


من جهته، قال وزير الخارجية الجزائري إن اللقاء "تناول الأوضاع بليبيا وتطرّق خلاله المسؤول الأممي لخطته بهدف البحث عن حل سياسي للأزمة". وجدّد الوزير "دعم الجزائر لجهود الأمم المتحدة ولسياسية الحوار الشامل بين كل الليبيين". وأعرب عن أمله في "أن يدخل الاتفاق السياسي (الموقع في الصخيرات في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015) مرحلة التنفيذ خلال الأسابيع المقبلة. وأضاف مساهل أن اللقاء مع سلامة تطرق أيضاً إلى "دور دول الجوار في مساعدة ومرافقة الليبيين وفي مساعدة المبعوث الأممي". وشدد على أن "أبواب الجزائر تبقى دائماً "مفتوحة" بهدف إيجاد حل للأزمة الليبية"، مشيراً إلى أن "مهمة غسان سلامة ليست سهلة"، بحسب تعبيره.

في الواقع، لم تحمل الرسائل الآتية من الجزائر، شأنها شأن عواصم الدول العربية والأجنبية، شيئاً مغايراً لما سبق. فقد تعهّدت حكومات هذه العواصم بدعم الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات وضرورة إنجاز تسوية بشأنه لوضعه حيز التنفيذ. لكن تصريحات مسؤولين من الداخل الليبي كانت تشير إلى غموض مواقفها التي يبدو أنها تنمّ عن ترقب لمعرفة اتجاه عمل سلامة. ويشار إلى أن تكليف الأخير بالملف الليبي أتى في ظل خلافات حادة بين الأطراف الليبية حول الاستفتاء على مسودة الدستور وإنهاء المرحلة الانتقالية، أو إلغائها والذهاب إلى انتخابات عاجلة لفترة انتقالية ثالثة.

ويعتبر ملف الاستفتاء على مشروع الدستور الذي أقرته هيئة صياغة الدستور، نهاية يوليو/تموز الماضي، وقدمته للبرلمان لإقرار قانون الاستفاء عليه من الشعب، أو الذهاب إلى مرحلة انتقالية ثالثة بعد انتهاء وفدي البرلمان ومجلس الدولة من تعديل الاتفاق السياسي، الخيارين الوحيدين في المشهد الحالي. لكن جولات سلامة التي لم تنته لم يتبيّن من خلالها أي خيار سيتم تبنّيه من الخيارين المطروحين.

وتضغط أوساط ليبية مؤيّدة لحفتر في شرق البلاد، لا سيما في البرلمان، في اتجاه الذهاب إلى انتخابات جديدة وتأجيل الاستفتاء على الدستور الدائم للبلاد، بينما يطالب الاتجاه المناوئ لحفتر، في الغرب الليبي، بإنجاز الدستور والاستفتاء عليه كحل لإنهاء الانقسام السياسي والأمني في البلاد.

وعقب لقاء سلامة برئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، في السادس من الشهر الحالي، قال المتحدث باسم برلمان طبرق، عبد الله بلحيق، إن "سلامة جاء في مرحلة أكثر تعقيداً من السابقة"، مشيراً إلى رفض البرلمان عقد اتفاق بين السراج والجانب الإيطالي القاضي بنشر قطع بحرية إيطالية في المياه الليبية. واعتبر أن "المبعوث الأممي في شخصه لا يغيّر كثيراً في المعادلة وإنما ما يغيرها هي سياسات الدولة الفاعلة في المشهد الليبي"، مضيفاً أن "الليبيين لا ينتظرون كثيراً من المبعوث الأممي الجديد إلا إذا ما تغيرت تلك السياسات المحيطة بليبيا". لكن موقف البرلمان وداعمي حفتر في الشرق الليبي يبدو أنه يتجه إلى الموافقة على تعديل الاتفاق السياسي. فقد صرّح النائب في لبرلمان زياد دغيم، والمقرب من حفتر، بأن لقاءات قريبة ستبدأ بين وفدي البرلمان ومجلس الدولة في طرابلس لإنهاء الخلاف حول الاتفاق السياسي وبدء العمل به قبل الذهاب إلى مرحلة انتقالية جديدة من خلال ما سوف تفرزه الانتخابات المقبلة، ليصل مستوى المواقف المتحولة في معسكر حفتر إلى إعلانه القبول عن تخليه عن منصبه العسكرية إذا تم منحه منصباً سياسياً.

وفي هذا السياق، نقلت إذاعة "بي بي سي 4" البريطانية، يوم الجمعة الماضي، عن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، أن حفتر تعهّد له خلال لقائه به في بنغازي الخميس الماضي، بـ"التخلي عن الحكم العسكري إذا نجح وأصبح رئيساً للبلاد".

وعلى الضفة الأخرى، تحديداً في طرابلس، لا تزال المواقف ضبابية. فرئيس المجلس الأعلى للدولة، عبد الرحمن السويحلي، كلّف الأسبوع الماضي لجاناً للعمل على دعم مفوضية الانتخابات وأخرى للنظر في مشروع الدستور للمطالبة بضرورة الاستفتاء عليه من قبل الشعب وإقراره كحل لإنهاء أزمة البلاد. ومن جانبه، اعتبر رئيس حزب "العدالة والبناء" محمد صوان، خلال بيان صحافي مطلع أغسطس/ آب الحالي، أن "هناك فرصة كبيرة أمام المبعوث الأممي غسان سلامة للنجاح في مهمته من خلال تركيز جهوده على الدفع باتجاه إنجاز الاستفتاء على مشروع الدستور". وطالب سلامة بتقديم الدعم اللازم لمفوضية الانتخابات لإنجاز هذا الاستحقاق وتوفير البيئة الملائمة للاستفتاء على الدستور لإنهاء أزمة مرحلة الانتقال السياسي. واعتبر صوان أن "المطالبة بالعودة إلى طاولة الحوار وفتح باب تعديل الاتفاق السياسي أمر محفوف بالمخاطر لفشل المحاولات السابقة بسبب تشعب المسالك، واتساع الخلاف حول المواد المطلوب تعديلها ومن له حق التعديل، لا سيما في ظل انقسام مجلس النواب على نفسه".

وإنْ بدت ظروف مهمة سلامة تختلف عن ظروف سابقيه، لا سيما في الجانب العسكري الذي تكاد تكون قد تراجعت حدته في المشهد الليبي، إلا أن التحوّلات المتسارعة في الداخل الليبي لا تعكس كثيراً من الأمل القريب لحلحلة الصراع، إلا إذا توفر إجماع دولي وإقليمي وليبي لبلورة رؤية موحدة بشأن الصراع القائم.