بعد عام من إطلاق اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر حربه للسيطرة على العاصمة طرابلس، في 4 إبريل/نيسان 2019، دخل النزاع الليبي في بؤرة صراع إقليمي ودولي أكثر تعقيداً، مع ارتباط أزمة البلاد بملفات أخرى ليس أقلها الصراع على موارد الطاقة في البحر المتوسط. سلسلة تحوّلات شهدها العام المنتهي، لعل أبرزها تزايد التدخل الخارجي في ليبيا، أكان عبر الدعم الإماراتي والمصري والسعودي والروسي وحتى الفرنسي لحفتر، أو عبر دخول تركيا لاعباً أساسياً على الساحة، بعد توقيعها اتفاقيتين مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج. عسكرياً، وبينما كان اللواء المتقاعد يتحدّث عن حسم سريع للمعركة، إلا أنه لم يتمكّن خلال عام من إحداث أي انقلاب ميداني كبير، وانتهى الميدان إلى حالة توازن عسكري بفعل الدعم السياسي والعسكري الذي أحدثه التدخّل التركي إلى جانب حكومة الوفاق. أما سياسياً، فقد فشلت كل المحاولات والجهود للدفع نحو حلّ سلمي للأزمة، ليتوّج الانسداد السياسي باستقالة المبعوث الأممي غسان سلامة من مهامه.
بداية الانقلاب
قبيل إعلانه الحرب على طرابلس في الرابع من إبريل/نيسان من العام الماضي، كان حفتر طيلة الأشهر الأولى من ذلك العام يتقدّم في الجنوب الليبي في صمت، في وقت نظّمت فيه الإمارات، أكبر داعميه الإقليميين، لقاءً في أبوظبي جمع حفتر برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فائز السراج، في نهاية فبراير/شباط 2019، لحلحلة العقبات التي كانت تعرقل طريق الأمم المتحدة لجمع ممثلي الشرائح الليبية في ملتقى غدامس. وفي الوقت ذاته، كان حفتر يعزز من مواقعه في اتجاه الشمال، وتحديداً في قاعدتي الجفرة والوطية اللتين تشكلان السيطرة على المجال الجوي للغرب الليبي.
نتائج محادثات أبوظبي بقيت غامضة، ولكنها من دون شكّ كانت بداية انقلاب حفتر على المسار السياسي ونسفه لكل الجهود الأممية، لا سيما أنّ إعلانه الحرب على طرابلس تزامن مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريس وقتها في طرابلس للوقوف على التحضيرات النهائية التي يجريها المبعوث الأممي حينها، غسان سلامة، لملتقى غدامس الجامع الذي كان يمثل وقتها محاولة لإطلاق مسار لإنهاء الأزمة السياسية الليبية.
ويرى الأكاديمي الليبي، خليفة الحداد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ حفتر "لم يطلب في أبوظبي حلاً سياسياً، بل طلب من السراج أن يسلمه البلاد، وهدد بورقة القبائل في المناطق المجاورة لطرابلس وتشكيلات مسلحة داخل العاصمة التي تحالفت معه وقتها وأعطت الضوء الأخضر لدخول طرابلس".
وكشفت وسائل إعلام مختلفة عن تلقي حفتر ملايين الدولارات من السعودية لحثه على اقتحام طرابلس خلال لقائه بالعاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، في الرياض قبل عشرة أيام من إعلانه الحرب. ويؤكد الحداد لـ"العربي الجديد" أنّ حلفاء حفتر انتهوا في ذلك الوقت من "تجيير" المواقف السياسية الدولية لصالح حرب اللواء المتقاعد، بل عملوا أيضاً على التأثير على الموقف الأميركي الذي ترجمه اتصال الرئيس دونالد ترامب في العشرين من إبريل بحفتر.
وحتى منتصف إبريل، كانت الكفة السياسية والعسكرية راجحة لحفتر، وبسقوط غريان الجبلية المطلة على طرابلس، وانضمام ترهونة المجاورة لها، وقعت حكومة الوفاق في حصار خانق، لم تخرج منه إلا بعد صمود كتائبها في طرابلس ودعم كتائب مصراتة والزاوية، ما حدّ من التقدّم السريع لمليشيات حفتر في أحياء جنوب العاصمة التي سيطر على أهمها، قصر بن غشير، والمطار القديم الذي يفضي إلى طريق استراتيجي يصله بقلب العاصمة، ووادي الربيع المتاخم لترهونة.
وعلى الرغم من اشتداد المعارك وضراوتها، إلا أنّ عجز حفتر عن تحقيق أي تقدّم مهم خلافاً لتعهده باقتحام العاصمة في 48 ساعة، كان بداية لتغيرات في مواقف العديد من الأطراف الدولية، ومن بينها واشنطن، التي أكدت سفيرتها في ليبيا، نتالي بيكر، في تصريحات صحافية لها في وقت سابق، أنّ بلادها كانت مضللة بتقارير غير صحيحة عن ليبيا.
تبدل المسار الميداني
لكن العامل الأهم في مجريات مسار المعركة شكّله سقوط مدينة غريان بيد قوات الحكومة في نهاية يونيو/حزيران الماضي، لتعود عبارة "لا يوجد حلّ عسكري في ليبيا" إلى الخطاب السياسي الدولي مجدداً، في الوقت الذي عادت فيه البعثة الأممية للنشاط بعد أشهر من الصمت، وبعد إعلانها تأجيل انعقاد ملتقى غدامس "حتى إشعار آخر". لكن تصريحات سلامة وقتها لم تكن تشير إلى إمكانية العودة إلى غدامس، بل إلى "تحييد تأثير الأطراف الخارجية"، و"تقريب وجهات النظر الدولية" بشأن ليبيا، خصوصاً مع ظهور أدلة متزايدة على دعم فرنسا لحفتر آخرها عثور قوات الحكومة على صواريخ "جافلين" أميركية كانت قد بيعت لباريس، في معسكرات اللواء المتقاعد في غريان.
وخلال الثلاثة أشهر التي أعقبت سقوط غريان، تحوّلت خطط عملية حفتر إلى تكثيف الضربات الجوية بواسطة الطيران المسيّر الإماراتي، خصوصاً مع عجز المليشيات عن تحقيق أي تقدّم على الأرض. وشكل استهداف المدنيين والمنشآت المدنية الظاهرة الأبرز وقتها، خصوصاً في أحياء أبو سليم والفرناج والهضبة، بل أيضاً مقر إيواء مهاجرين غير شرعيين أسفر عن مقتل العشرات في 3 يوليو/تموز الماضي. وذلك مقابل نشاط جوي من قِبل قوات الحكومة، التي تمكنت للمرة الأولى من ضرب قاعدة الجفرة، التي تحولت إليها الغرفة الرئيسية لقيادة المعركة من غريان بعد سقوطها، في 26 يوليو الماضي، ودمرت طائرتي شحن أوكرانيتين، واستهدفت غرفة قيادة الطائرات المسيرة الإماراتية، إذ أكد المتحدث الرسمي باسم قوات حكومة الوفاق، محمد قنونو، أنّ 6 ضباط إماراتيين قتلوا في هذه الضربة.
لكنّ التحوّل الأكبر في مسار الأحداث وقتها، كما يقول الباحث في العلاقات الدولية، مصطفى البرق، لـ"العربي الجديد"، تمثّل في التقارب بين تركيا وحكومة الوفاق، الذي تحركت مساعٍ دولية لعرقلته. وشكّل نجاح الحكومتين في عقد اتفاقيتين، بحرية وأمنية، انعطافة كبيرة، استدعت نشاطاً أممياً متزايداً للدعوة إلى قمة دولية من أجل تقريب وجهات النظر، والحدّ من انزلاق ليبيا إلى مواجهات عسكرية بسبب المعارضة الواسعة للاتفاق البحري والأمني من قبل حلفاء حفتر، خصوصاً مصر التي هددت بتدخل مباشر.
ويلفت البرق إلى متغيّر كان عاملاً وراء تغيّر الموقف الأميركي أيضاً، وتمثّل في التقارير التي بدأت تنتشر منذ يوليو الماضي وتتحدث عن وجود مقاتلي شركة "فاغنر" الروسية في صفوف مليشيات حفتر، جنوب طرابلس، تزامناً مع تصريحات مسؤولين أميركيين قالوا إن عددهم بلغ 2500 مقاتل. وسريعاً ما أكدت قوات الحكومة وجود هؤلاء المقاتلين بالإعلان عن العثور على مقتنيات تخصهم في مواقع جنوب طرابلس، في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي. كما أنّ انقلاب موازين القتال لصالح حفتر، أكد وجود عنصر قتالي جديد، فقد سقطت معسكرات مهمة عدة جنوب طرابلس كاليرموك والتكبالي، وأصبحت القذائف والصواريخ العشوائية تطاول مطار معيتيقة بشكل سهل، حتى سجّلت حكومة الوفاق أكثر من عشرين استهدافاً للمطار حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما دعاها لتعليق نشاطه نهائياً.
ومع بداية يناير/كانون الثاني الماضي، وبدء وصول الدعم التركي لحكومة الوفاق، انقلبت موازين المعركة لتسترجع قوات الحكومة مواقعها ومعسكراتها جنوب طرابلس، فيما اضطرت مليشيات حفتر للتراجع إلى مواقعها الأولى التي سيطرت عليها في إبريل 2019. ولتخفيف الضغط على مليشياته، اتجه حفتر إلى التحالف مع الكتيبة 604 السلفية المدخلية في سرت، وتمكّن معها من السيطرة على المدينة، ونقل المعركة باتجاه المناطق الفاصلة بين سرت ومصراتة، ما شكّل اتساعاً لرقعة المعركة وفتح محاور جديدة.
جمود سياسي
وتزامن الحراك العسكري الذي كان لصالح كفة الحكومة مع نجاح الأمم المتحدة في عقد قمة برلين في 19 يناير الماضي، بعدما تأجلت لأكثر من مرة، وسط نزاع أوروبي روسي على الملف الليبي، خصوصاً بعد التقارب التركي الروسي الذي انتهى إلى الدعوة إلى "هدنة" يوم 12 يناير، ووصول حفتر والسراج في اليوم التالي إلى موسكو للتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار. لكن حفتر عاد ورفض التوقيع على ذلك الاتفاق، وسط شدّ وجذب أحدثه الاتفاق البحري الذي وقّعته تركيا مع حكومة الوفاق.
ومنذ 19 يناير، موعد انعقاد قمة برلين بمشاركة 12 دولة و4 منظمات دولية متصلة بالملف الليبي، وحتى إعلان المبعوث الأممي غسان سلامة استقالته في مطلع مارس/آذار الماضي، لم تنجح المسارات الثلاثة التي أطلقتها القمة برعاية أممية في إحداث أي تغيير. فعلاوة على غموض نتائج اللقاء الأول للمسار الاقتصادي في القاهرة في 12 فبراير/شباط الماضي، لم تنته محادثات اللجنة العسكرية 5+5 إلى أي نتائج ملموسة على الرغم من التفاؤل الأممي، فيما عمّق فشل سلامة الذريع في إقناع الممثلين السياسيين بالقبول ببدء عقد محادثات المسار السياسي الأزمة، وهو ما اعتُبر السبب المباشر في استقالته، خصوصاً مع تزايد خروقات وقف إطلاق النار الذي قال أحد إحصاءات البعثة الأممية إنها بلغت 150 خرقاً حتى نهاية فبراير.
ولم يستطع قرار مجلس الأمن، في منتصف فبراير الماضي، إجبار طرفي النزاع على التقيد به، وحتى الدعوة لـ"هدنة إنسانية" نادت بها 9 سفارات دول عربية وأجنبية وانضمت إليها البعثة الأممية بسبب انتشار فيروس كورونا في العالم، لم تحد من القصف الصاروخي العشوائي على الأحياء المدنية. وردت حكومة الوفاق بإطلاق عملية "عاصفة السلام" في 26 مارس الماضي، والتي تمكنت من تقليل حدة استهداف الأحياء المدنية، إلا أنّ هدف القوات الحكومية بالتقدم باتجاه منطقة ابوقرين غرب سرت، واسترجاع مواقع فقدتها، بدا عملية صعبة.
وعلى الرغم من أنّ الأوساط المتابعة ترى في استقالة سلامة انهياراً لكل مسارات الحلّ السلمية، خصوصاً مع انشغال العالم في مجابهة انتشار فيروس كورونا، وترك الساحة الليبية متقدة بين المتنازعين، فإن التوازن العسكري الحالي واستحالة تمكّن أي من الطرفين بحسم المعركة، قد يشكّلان فرصة لعودة الجهود الدولية والأممية عبر محادثات سلام جديدة قد تكون في إطار مبادرات إقليمية دعت إليها الجزائر وتونس بدعم أفريقي واسع، أو من خلال عودة الأطراف الدولية المتصلة بالملف الليبي إلى التفاهم على جملة من الأمور، خصوصاً أنّ تداعيات الأزمة وصلت إلى ملف النفط، بعد إغلاق حفتر منابع النفط ومنع تصديره. لكن محللين آخرين لا يرون إمكانية لحل ليبي إلا بحلحلة ملفات أخرى بات الصراع الليبي ورقة ضغط فيها، مثل الصراع على موارد الطاقة في البحر المتوسط.