رفض البرلمان التونسي بجلسة عامة غلب عليها التشنج والتوتر لائحة تقدمت بها كتلة "ائتلاف الكرامة"، لمطالبة فرنسا بالاعتذار للشعب التونسي عن جرائمها خلال حقبة الاستعمار المباشر وبعدها.
وصوت 77 نائبا فقط بالموافقة على مشروع اللائحة وصوت ضدها 5 نواب وامتنع 46 آخرون عن التصويت، وبالتالي لم تحصل اللائحة على الأغلبية المطلوبة المتمثلة في 109 أصوات.
واتفق البرلمانيون على التنديد بالانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي في تونس لعقود، معبرين عن رفضهم لجميع أشكال الاحتلال والقمع، غير أن تحفظات البرلمانيين تراوحت بين الشكل والمحتوى وتوقيت طرح اللائحة لترفع كل كتلة "فيتو" بطريقتها حتى أُفرغت اللائحة من محتواها وفقدت معناها.
وشهدت أشغال الجلسة العامة المخصصة لمناقشة اللائحة تشنجاً غير مسبوق، وتبادلاً للتُهم بالعمالة والخيانة بين الكتل والبرلمانيين.
وعدّد رئيس كتلة "ائتلاف الكرامة"، سيف الدين مخلوف، خلال تقديمه مشروع اللائحة ما سمّاها "جرائم الاستعمار الفرنسي في حق الشعب التونسي"، مذكرا بأهم الأحداث التي وصفها بـ"المجازر التي عرفتها أغلب محافظات البلاد".
وأكد مخلوف أن تونس تدين لشهداء الحركة الوطنية ولجرحى حقبة الاستعمار والمنفيين وغيرهم ممن تمّ التنكيل بهم، مشيراً إلى أن تاريخ تقديم اللائحة إلى البرلمان يوم 12 مايو الماضي يتزامن مع تاريخ إمضاء معاهدة الحماية 1881 وتاريخ معاهدة الجلاء الزراعي سنة 1964.
وأوضح مخلوف أنّ طلب الاعتذار تقدمت به كل الشعوب المضطهدة من بينها فرنسا التي طالبت ألمانيا بالاعتذار، مبيّنا أن العلاقات بين هذين البلدين توطدت إثر اعتذارها رسميا لفرنسا.
ولفت مخلوف إلى أن الاعتذار يُعد تصحيحا لوضعية واعترافا بجرائم ارتكبت في حقّ الإنسانية، خاصّة وأنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرّح بأن الاستعمار هو جريمة ضدّ الإنسانية.
وندّد مخلوف بعدم تفاعل الرئيس التونسي مع اللائحة قائلا: "كنت أتمنى لو تبنى رئيس الجمهورية قيس سعيد موقف الكتلة بخصوص اللائحة ودعمها بعد أن تمّ إعلامه بذلك".
وتطالب كتلة ائتلاف الكرامة، فرنسا، بإعلان اعتذارها رسميّا وبشكل علني عن كل ما اقترفته في حق الدولة التونسية وفي حق الشعب التونسي زمن الاحتلال المباشر، وبعده من جرائم قتل واغتيال وتعذيب واغتصاب ونفي وتهجير قسري ونهب للثروات الطبيعية والأملاك الخاصة وعن دعمها الصريح للاستبداد والديكتاتورية.
وتضمنت اللائحة أيضًا مطالبة فرنسا بالمبادرة بتعويض الدولة التونسية وكلّ المتضرّرين من الجرائم المذكورة وكلّ الذين انجر لهم الحق قانونًا، تعويضًا عادلاً مجزياً طبق ما تقتضيه القوانين والأعراف الدولية، بما من شأنه أن يساهم في مسح الآلام والأحزان والمآسي التي تسبب فيها الاحتلال البغيض.
كما تطالب اللائحة بأن تضع فرنسا على ذمة الدولة التونسية والباحثين وعموم الناس، كامل الأرشيف الرسمي المتعلق بتلك الحقبة السوداء حتى تعي الأجيال الجديدة مساوئ الاستعمار وحتى لا تتكرّر المآسي بسببه.
واعتبر نائب رئيس حزب النهضة، علي العريض، أنّ هذه اللائحة غير مناسبة في هذا الوقت، قائلا إنه "لن ينتج عنها سوى الإضرار بمصالح تونس وعلاقاتها مع الدول والمجتمع الفرنسي والزج بهذه العلاقات المتعددة الأوجه في أتون المزايدات والتشويش"، على حد تعبيره.
وأضاف العريض في تدوينة على "فيسبوك"، أن هذه اللائحة "لا تتوفر على شروط ولا ظروف مناسبة ولا تشارك مؤسسات الدولة ولا سيما رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة الخارجية"، مشددا على أنها "مضرة بمصالح تونس والتونسيين وعلاقاتنا مع الدولة والمجتمع الفرنسيين لأن فرنسا تعد "أول حريف وأول مزوّد وأكبر مستثمر في تونس ويقيم فيها قرابة المليون تونسي وتونسية". على حد تعبيره.
من جانبها، طلبت رئيسة كتلة الدستوري الحرّ، عبير موسي، حذف النقطة المتعلقة بطلب التعويضات المادية، لأن مقاومي ومناضلي الحركة الوطنية التحريرية لا يطلبون ولا يتقاضون مقابلاً مادياً عن نضالاتهم وتضحياتهم من أجل الوطن، فضلا عن إضافة نقطة تتعلق بضرورة تقييم ومراجعة الاتفاقيات الخاصة بالملح والبترول مع فرنسا لمزيدٍ من تحسين مردوديتها على الشعب التونسي، صاحب السيادة الوطنية على ثرواته.
وبينت موسي أنه ليس لدى حزبها إشكال من مطالبة فرنسا بالاعتذار، مشيرة إلى ضرورة أن يكون الاعتذار للدستوريين والبورقيبيين الذين ناضلوا ضد الاستعمار وليس طلبا للتعويضات المالية، على حد قولها.
وفي رده على موسي، وصف النائب عن حزب النهضة، عماد الخميري، ما تقوم به رئيسة كتلة الحزب "الدستوري الحرّ" بـ"التهريج ومواصلة الترذيل والكذب على حركة النهضة"، بإدعائها غياب نواب كتلة النهضة، مشددا على أن موسي أصبح لديها "فوبيا" من حزب النهضة ومن رئيس البرلمان راشد الغنوشي.
وتساءل النائب عن حزب النهضة محمد القوماني حول مدى تفاعل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مع مضمون اللائحة، وعن الاستعمال غير الموفق للبند 141 في علاقة بتقديم مشاريع اللوائح، منبها إلى إغراق الجلسات العامة البرلمانية بعدد كبير من اللوائح التي ستؤثّر على الأولويات التشريعية والرقابيّة للبرلمان وستدخل المجلس في قضايا انقساميّة كالقضايا الإيديولويجية والسياسيّة والتاريخية والإقليمية وستضرّ بصورته.
واعتبر النائب المعارض، المنجي الرحوي، أن هناك محاولات حشر لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وإقحامهما في هذا العبث البرلماني، داعيا لمواجهة الواقع المتميز بـ"الرداءة".
من جانبه، انتقد النائب عن حركة الشعب، سالم الأبيض، ما اعتبره محاولة تصدير المشكل البرلماني إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، داعيا الكتل إلى تحمل مسؤوليتها سواء بخصوص هذه اللائحة أو غيرها من اللوائح، طالبا من القوى السياسية والأحزاب والكتل البرلمانية إبداء مواقفها بمعزل عن تصدير الأزمة إلى الغير.
ودار جدل واسع تحت قبة البرلمان حول دستورية هذه اللائحة وخصوصا في علاقتها بصلاحيات الرئيس التونسي في رسم السياسة الخارجية للبلاد وقيادتها، حيث سأل الوزير السابق والنائب المستقيل عن حركة النهضة، زياد العذاري، عن الأساس الدستوري لمناقشة اللوائح البرلمانية، مشددا على أنّ الدستور لم ينص على اللوائح التي تضمّنها النظام الداخلي للبرلمان فقط، ومنزلة القوانين تجعل الدستور فوق النظام الداخلي ومن الضروري مراعاة هذه التراتيب.
وتساءل العذاري عن صلاحية مناقشة البرلمان مسائل "تهم صلاحيات سلط عمومية أخرى، وحول وجاهة النظر في لوائح قد تمسّ بحقوق المرأة مثلا، أو إعلان حرب على الولايات المتحدة أو غواتيمالا"، على حد تعبيره.
وفي ردّه على العذاري، تساءل رئيس كتلة ائتلاف الكرامة عن سبب عدم الاعتراض على لائحة الدستوري الحر الأسبوع الماضي، معتبرا أن الإحراج السياسي هو سبب الدفع بعدم الدستورية بهذه اللائحة.
وعرفت الجلسة العامة تعليقاً لأشغالها وتوتراً وتشنجاً كبيرَين إثر مداخلة النائب المستقل راشد الخياري، التي اتهم فيها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بـ"العمالة لفرنسا"، الشيء الذي أثار حفيظة نواب كتل "الحزب الدستوري الحر" و"الإصلاح الوطني" و"قلب تونس"، التي تعتبر مرجعيتها دستورية بورقيبية، لتتحول الجلسة إلى تبادل للتهم والشتائم قبل أن ترفع بسبب التوتر والتشابك بين النواب.
وطالب رئيس "كتلة الإصلاح" حسونة الناصفي، باعتذار الخياري وسحب مداخلته ومحو العبارات التي اتهم فيها بورقيبة من مداولات البرلمان، مهددا بمقاطعة الجلسة والانسحاب من بقية أشغالها، لتستأنف الجلسة إثر ذلك، وسط المشادات والحرب الكلامية بين مختلف النواب.
وتعدّ اللوائح البرلمانية بحسب ما أكدته منى كريم الدريدي خبيرة القانون الدستوري والقوانين البرلمانية لـ"العربي الجديد"، بمثابة "الموقف السياسي غير الملزم للسلطة التنفيذية، سواء في علاقة برئيس الجمهورية قيس سعيد بوصفه المسؤول الأول بحسب الدستور عن السياسة الخارجية أو برئيس الحكومة إلياس الفخفاخ".
وأضافت كريم أن اللوائح "غير ملزمة للدول والأطراف الخارجية، فهي تعدّ إعلانًا سياسيًا باسم البرلمان التونسي لا يترتب عنه أي أثر قانوني".