وفي الطريق إلى الباغوز الذي استغرق شهوراً، خاضت مليشيا "قسد"، تحت غطاءٍ ناري كثيف من طيران "التحالف" معارك ومواجهات عسكرية مع "داعش" الذي استشرس بالدفاع عن معاقله الأخيرة، في محاولة لإطالة عمر المعركة وتكبيد مهاجميه خسائر جمة، غير آبه بمصير آلاف المدنيين الموجودين في مناطق سيطرته.
وكانت "قسد" أطلقت مطلع شهر آذار/مارس الحالي، المرحلة النهائية من "معركة دحر الإرهاب"، لانتزاع السيطرة على قرية الباغوز ومزارعها، آخر منطقة مأهولة لا تزال تحت سيطرة مسلحي تنظيم "داعش"، بعدما طردت المليشيا التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، التنظيم من الأراضي التي كان يسيطر عليها في ريف دير الزور الشرقي، شمال نهر الفرات، على مراحل.
Twitter Post
|
وبعد بدء المعركة، واجهت هذه القوات عقبات عدة، لعل أبرزها تكدس عشرات آلاف المدنيين من مختلف الجنسيات في بقعة جغرافية ضيقة لا تتعدى الـ1500 متر، فبدأت عمليات إجلاء لعدد كبير من هؤلاء المدنيين، بعدما سمح التنظيم بخروج من يرغب منهم.
وتقدر مصادر عدد الخارجين من الجيب الأخير لـ"داعش" بأكثر من 20 ألفا، بينهم آلاف المسلحين التابعين للتنظيم الذين فضّلوا الاستسلام لـ"التحالف الدولي" على الموت حرقاً بنيران الطيران والمدفعية.
وانتهت السبت الماضي مهلة استسلام مقاتلي "داعش"، ليبدأ على الفور طيران "التحالف الدولي" إمطار المنطقة بالقذائف والصواريخ، مكرراً السيناريو "المتوحش" الذي سبق أن استخدمه في مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية، حيث ترد صور من داخل الباغوز يصفها ناشطون سوريون بـ"الصادمة"، وتظهر مئات الجثث المتفحمة أو الممزقة لأطفال ونساء ورجال جراء القصف الجوي والمدفعي.
وتقدر مصادر محلية مقتل نحو 400 مدني ومسلح بالقصف الجوي على الباغوز، الذي كانت غايته قتل كل الموجودين في القرية، لتفادي أي خطر في حال تقدم عناصر "قسد" لتمشيط المنطقة المليئة بالأنفاق والألغام.
ونقلت وكالة "الأناضول" التركية عن مصادر محلية قولها إن جثث عناصر "داعش" التي لا يبدو عليها جروح بليغة، تثير الريبة حول قيام "قسد" بإعدام جماعي لهم، مشيرة إلى أن الجروح على أجساد المدنيين القتلى، تدل على أنهم قتلوا في قصف جوي أو مدفعي، وأن الجثث تفحمت جراء استخدام الفوسفور المحرم دولياً من قبل قوات "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وذكرت مصادر إعلامية معارضة أن نحو 200 شخص من مسلحي التنظيم وعائلاتهم، قتلوا الثلاثاء الماضي بقصف من طيران "التحالف الدولي" على مخيم الباغوز الذي كان يضم المدنيين المتبقين في المنطقة، ما يؤكد أن "التحالف" ارتكب عمليات إبادة جماعية، حيث لم يضع في خططه العسكرية وجود مدنيين، أغلبهم أطفال ونساء في المنطقة.
وكانت "قسد" بدأت"، في سبتمبر/أيلول الماضي، حملة عسكرية للقضاء على التنظيم في ريف دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات، لكن الحملة واجهت عقبات عسكرية وسياسية أدت إلى امتداد الصراع أشهراً، قتل خلالها مئات المدنيين بالقصف المدفعي لهذه القوات، والجوي من قبل طيران "التحالف".
وقتل في هذه الحملة الكثير من مسلحي "قسد"، خصوصاً من المكون العربي الذين كانوا في المواجهة المباشرة مع التنظيم من دون تدريب كافٍ، وفق مصادر في هذه القوات التي تعد الذراع البرية لـ"التحالف الدولي" في سورية.
وسيطرت هذه القوات على المعقل البارز لتنظيم "داعش" في ريف دير الزور الشرقي، وهو مدينة هجين، بعد معارك شرسة في منتصف كانون الأول من العام الماضي.
وانكفأ التنظيم إلى جيب صغير على امتداد نهر الفرات يضم بلدة السوسة وقرى عدة قريبة منها، كالبوبدران، والسفافنة، والرواشدة، والباغوز، والشجلة، سرعان ما بدأ يفقدها، حيث انتزعت "قسد" بلدة السوسة في منتصف كانون الثاني، بعد معارك أدت إلى مقتل مئات المدنيين في مجازر ارتكبها طيران "التحالف الدولي"، إضافة إلى مقتل مئات المسلحين من طرفي القتال.
ولاحقاً، بدأت "قسد" مرحلة تطوير الهجوم، ليشمل ما بقي تحت سيطرة التنظيم من قرى، فعاد "التحالف" لارتكاب مجازر جديدة، على غرار ما حدث في قرية السفافنة في 18 كانون الثاني/ يناير الماضي، حيث قتل وأصيب العشرات من المدنيين بقصف جوي.
وبدأت القوات الكردية بقضم القرى التي يسيطر عليها التنظيم، حيث انتزعت قرية الباغوز الفوقاني في منتصف شباط/فبراير الماضي، فتراجع مسلحو التنظيم إلى قرية الباغوز، ومن ثم إلى مزارعها، حيث دارت رحى المواجهات الأخيرة.
وتؤكد الأنباء الشحيحة التي تصل من الباغوز، أن مئات المسلحين من تنظيم "داعش"، وجلهم كما يبدو من الأجانب، اختاروا القتال حتى الرمق الأخير، رافضين مبدأ الاستسلام لـ"التحالف الدولي"، كما فعل آلاف المسلحين من التنظيم.
وحاول المحاصرون أكثر من مرة شقّ طريق لهم إلى العراق أو إلى البادية السورية، لكنهم فشلوا، ولم يعد أمامهم إلا الانتحار بأحزمة ناسفة لإيقاع خسائر في عناصر "قسد" التي فقدت عدداً كبيراً من عناصرها في معركة استعادة ريف دير الزور الشرقي، شمال نهر الفرات.
ولا يعني إعلان "قسد" القضاء على "داعش" في منطقة شرقي نهر الفرات، انتهاء أسطورة ما يُسمّى بـ"الدولة الإسلامية"، والتي بدأت في سورية عام 2013، وازدهرت في عامي 2014 و2015، حيث لا يزال التنظيم محتفظاً بخلايا نائمة ومجموعات من "الذئاب المنفردة" في العديد من الأماكن، وخاصة في البادية السورية المترامية الأطراف، تستخدم تكتيك توجيه ضربات سريعة ومؤثرة.