لا تكاد مدينة منبج السورية غربي نهر الفرات تبتعد عن واجهة المشهد، حتى تعود بزخم أكبر، ما يؤكد أهمية هذا المدينة لفرقاء الصراع في سورية، إذ لا تزال "قوات سورية الديمقراطية" التي تسيطر على المدينة، تتلقى دعم الولايات المتحدة، التي لم تلتزم بخارطة طريق اتفقت عليها مع تركيا العام الماضي حول المدينة، في الوقت الذي تتطلع فيه روسيا للحلول محل الأميركيين في منبج، أو المساومة عليها نظير مرونة تركية في ملفات أخرى.
وتأتي الحملة قبيل أسبوع من موعد الاحتفال بعيد "النيروز" أو رأس السنة الكردية التي يحتفل بها الأكراد في العالم ضمن تجمّعات في العديد من المناطق، ومن الواضح أن الوحدات الكردية التي تشكّل الثقل الرئيسي لقوات "قسد" تتحسب من شنّ هجمات على هذه التجمّعات. وذكرت المصادر أن الحملة الأخيرة تزامنت مع تسيير دوريات أميركية مكثفة على محور خط نهر الساجور الفاصل بين شمال وشمال غرب مدينة منبج ومناطق سيطرة المعارضة السورية والجيش التركي. ولطالما شهدت مدينة منبج عمليات تفجير، كان آخرها في يناير/كانون الثاني الماضي، وأعلن تنظيم "داعش" حينها عن وقوفه وراء تفجيرين استهدفا دوريات مشتركة للتحالف الدولي و"قسد"، أسفرا عن وقوع قتلى وجرحى من بينهم أربعة جنود أميركيين.
وتأتي الاعتقالات التي قامت بها "قسد" كتأكيد أن الأخيرة لا تزال هي القوة الضاربة في المدينة، في رسالة واضحة للجانب التركي الساعي إلى تكرار سيناريو عفرين شمال غربي حلب حيث شن عملية "غصن الزيتون"، والتي انتهت سريعاً بخروج الوحدات الكردية من المنطقة بشكل كامل. وبذلك عادت منبج إلى واجهة الحدث بعد أن ابتعدت قليلاً على ضوء ما يجري في شرقي البلاد، وشمال غربها، ليتجدد التنافس على هذه المدينة التي تقع غربي نهر الفرات، وانتزعت الوحدات الكردية السيطرة عليها بعد حصار شهرين، من تنظيم "داعش" في منتصف عام 2016. ويشكل العرب الغالبية الكاسحة من سكان منبج، ولكن الكثيرين منهم اضطروا إلى ترك مدينتهم عام 2014 مع سيطرة تنظيم "داعش"، وفي عام 2016 مع سيطرة الوحدات الكردية، إذ مارس الطرفان سياسة ترهيب ضد المعارضين.
وحاولت تركيا دفع فصائل المعارضة السورية المرتبطة بها لانتزاع السيطرة على منبج، للقضاء على الوجود الكردي المسلح غربي الفرات، ولكن الولايات المتحدة التي تدعم الوحدات الكردية وتحتفظ بوجود لها في منبج ومحيطها، حالت دون ذلك. وتعتبر أنقرة الوحدات الكردية النسخة السورية من حزب "العمال الكردستاني" المصنف في خانة التنظيمات الإرهابية في العالم. ومن هذا المنطلق، لا تزال أنقرة تنتقد الدعم الأميركي للوحدات الكردية المتهمة من قبل تركيا والمعارضة السورية بمحاولة إنشاء إقليم ذي صبغة كردية في شمال شرقي سورية، وهو ما تنفيه الوحدات التي تسيطر اليوم على منطقة شرقي الفرات التي تعادل أكثر من ربع مساحة سورية، فضلاً عن كونها تضم أهم الثروات في البلاد.
وبعد توتر في العلاقة بين أنقرة وواشنطن نتيجة دعم الأخيرة للوحدات الكردية سياسياً وعسكرياً، توصلت العاصمتان في يونيو/حزيران 2018، إلى اتفاق على "خريطة طريق" حول مدينة منبج، تضمن إخراج الوحدات الكردية ومليشيات محلية مرتبطة بها، من المنطقة، وتوفير الأمن والاستقرار فيها. ولكن واشنطن لم تنفذ ما اتفقت عليه مع أنقرة حول منبج متذرعة بوجود عوائق تقنية، وهو ما دفع النظام وحلفاءه الروس إلى محاولة العودة مرة أخرى إلى منبج، خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره بسحب قوات بلاده من سورية. وتباحث الأتراك والأميركيون منذ منتصف عام 2018 أكثر من مرة حول حسم مصير منبج، كان آخرها في بداية الشهر الحالي، حين التقى وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، مع المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، في العاصمة أنقرة، وبحثا الإسراع في استكمال خريطة طريق منبج، ولكن حتى اليوم لا يزال مصير المدينة غامضاً، ما يؤكد عدم وجود استراتيجية أميركية حيال الوضع في مدينة منبج وريفها.