برغم كل المحاذير والتحفظات والإخفاقات السابقة، جرى التعامل في واشنطن مع الاتفاق الأميركي "الطالباني"، الذي تم التوقيع عليه السبت في الدوحة؛ بتفاؤل ملحوظ، وإن مع الكثير من الارتياب. فالردود الأولية غلب فيها ولأول مرة، احتمال نجاح المسار نسبياً، ولو أنه مزروع بالألغام.
فالظروف والتوق الأميركي للخلاص من هذه الحرب الأطول، وربما رغبة "طالبان" في التقاط فرصة العجلة التي تبديها إدارة الرئيس دونالد ترامب للانسحاب، كله مع بعضه قد ينتهي إلى التوافق على تسوية تحفظ ماء وجه أطرافها. لكن لا وهم بأن الطريق صارت سالكة وخالية من المطبات والمقالب والتربص المتبادل، فالاتفاقية تحت الاختبار، وهي حتى في نظر المتفائلين ليست سوى خطوة أولى "تعزز الأمل"، إذا صمدت، بطي صفحة هذه الحرب.
المقدمات والتنازلات المتبادلة غير المسبوقة بدت مشجعة وتشي بإمكانية الحلحلة. صمود اتفاق "خفض العنف" لمدة 7 أيام، أعطى إشارة أولى على وجود رغبة في العثور على حلّ. وثمة اعتقاد بأنه من المتوقع التقيد به، ولو بالحد الأدنى، ولغاية تحويله إلى وقف إطلاق نار يتم إعلانه في وقت ما بعد المباشرة القريبة بالمفاوضات الأفغانية – الأفغانية في أوسلو، إذا سارت الأمور وفق المرسوم.
وكذلك كان التخلي المتبادل عن شروط مسبقة، مثل تنازل واشنطن عن ربط الانسحاب ببدء التفاوض المسبق بين الأطراف الأفغانية، وقبولها أيضاً بتحديد سقف، ولو مشروطا، لانسحابها النهائي بعد 14 شهر. ويندرج في هذا السياق موافقة "طالبان" على مباشرة التفاوض مع كابول وبقية القوى المحلية قبل الانسحاب الكامل للقوات الأميركية، وتعهدها بفك العلاقة مع الحركات المتشددة.
بذلك بدت الصفقة متوازنة في الصياغة. يبقى التطبيق ومدى الالتزام بالشروط والتعهدات والسقوف الزمنية، خصوصاً أثناء مرحلة الحوار الداخلي المهدد بالخلاف العميق الذي أثارته نتائج انتخابات الرئاسة التي أعلنت قبل أيام، والاعتراض على فوز الرئيس الأفغاني أشرف غني فيها. مشكلة يبدو أن واشنطن تمكنت من ضبط تفاعلاتها الآنية من خلال الضغط لتأجيل حفل تنصيب الرئيس المتمسكة برئاسته، ريثما تتوصل إلى حل العقدة مع منافسه عبدالله عبدالله.
السؤال الآن في واشنطن: هل تثمر المفاوضات بين الأفغانيين قبل أو مع نهاية المدة المحددة للانسحاب الأميركي في مايو/أيار 2021؟ والأهم: هل تقطع "طالبان" فعلاً ارتباطاتها مع تنظيم القاعدة؟
علامات الاستفهام كبيرة في واشنطن. التشكيك يوازي الترحيب وأكثر، فالتجربة غير مسبوقة والهوة واسعة بعد 19 سنة من الحرب. من المخاوف أن آليات التنفيذ تقتصر على تشكيل لجنة متابعة تراقب سير المفاوضات ومدى التزام الأطراف بالبنود الموجبة، من دون تحديد صلاحياتها لتصحيح الخروج، عند حصوله، عن المسار.
ومنها أيضاً أن التعقيدات الداخلية قد تبقي على هشاشة الوضع الحكومي مقابل تماسك حركة "طالبان"، مع ما ينتج عن ذلك من خلل في التركيبة السياسية المنشودة المفترض أن توفر الحصانة للساحة وإقفالها بوجه الحركات المتشددة.
مع ذلك أخذ الاتفاق حجم الحدث التاريخي. رسم لأول مرة، وبجدية، طريق الانسحاب الأميركي من أفغانستان. به سجلت رئاسة ترامب نقلة نوعية، ولو أنها محفوفة بالمخاطر واحتمالات الفشل. محاولة طي صفحة هذه الحرب تحظى بإجماع من النوع النادر هذه الأيام في واشنطن، ولو مع التحفظات على بعض جوانب وتفاصيل الاتفاق.
وكان من المفترض أن تتحول سيرته إلى حديث الساعة، لولا حرب "كورونا" التي سقط السبت بعد التوقيع على الاتفاق بساعات قليلة أول ضحاياها في أميركا؛ مما استدعى عقد مؤتمر صحافي خصصه ترامب للموضوع، ولحث الأميركيين على عدم الوقوع فريسة للذعر من هذا الفيروس القاتل.