من المتعارف عليه أن تدفق السلاح، الشرعي وغير الشرعي، يغذي الحروب الأهلية، ويقال أحياناً إن هذه الحروب قد تخلق شحّاً في الأسلحة المتاحة – وهي فرضية غير مثبتة - نظراً لتهافت الأفرقاء المتصارعين عليها، والذين قد يعمدون لاحقاً، بعد انتهاء أيّ حرب، لتزويدها لطرفٍ أو أطراف ثالثة. كانت هذه ولا تزال، حالة دول البلقان، وفي أميركا اللاتينية، وفي بؤر توتر أخرى في العالم. في أفريقيا، حيث شياطين التفاصيل تُحسب بـ"دبّة النملة"، يعود تاريخ تجارة أو تهريب السلاح، بنوعيه المتوسط والخفيف، والحربي والفردي، إلى ما قبل الاستعمار، ولاحقاً خلال الحرب الباردة، مروراً بصراعات دول في ما بينها وصراعاتها الداخلية، وصولاً إلى الربيع العربي، الذي شهدت فيه ليبيا اندلاع حرب أهلية لم تضع أوزارها بعد.
وفيما تدخل حرب اليمن عامها السادس، وعلى الرغم مما يثار عن بوادر أمل لإنهاء هذا الصراع الدامي الذي خلّف دولة منهارة وشعباً ينخره الجوع والعوز، فإن هذه الحرب لا تفيض بسلاحها، في الداخل فقط، بل تتعداه إلى الخارج، وبما يغذي منطقة لا تزال تلملم صراعاتها. وإذا كان مضيق باب المندب واحدا من عشرات الكلمات المفتاحية لفهم الصراع اليمني، فإنه الكلمة المفتاح الرئيسية لفهم خطوط "تجارة الموت"، التي بدأت تقارير عدة تحذر من استفحالها. والكلام هو عن كيفية مضاعفة الحرب اليمنية، للسوق السوداء للسلاح، وتغذية السلاح اليمني لمنطقة القرن الأفريقي، امتداداً إلى ما بعدها. فالسلاح الذي يعبر في عبّارات وسفن الموت المجاني، إلى "القرن الأفريقي"، كثيراً ما لا يقف عنده. فالفائز به، أخيراً، هو من يدفع السعر الأعلى، الذي قد يكون مضاعفاً بعشر مرات عن السعر اليمني، لكنه سيكون حتماً واحداً من تلك الأطراف الكثيرة، التي لا تزال تجعل من القارة السمراء منطقةً لا تعرف كيف تلتقط أنفاسها.
والجدير ذكره، أن تدفق السلاح في اليمن، وإلى خارجه، لم يقتصر يوماً، ما قبل الحرب السعودية، وخلالها، على اللاعبين أو التجار المحليين، أكانوا أفراداً أم جماعات، بل تعداه إلى وسطاء أجانب، وحتى غربيين، لا سيما مع وجود مئات المرتزقة وشركات الأمن الخاصة الناشطة في هذا البلد، وهذا ينسحب على تاريخ من التدخل الأجنبي في هذا البلد وفي صراعات بالمنطقة من خلاله.
أما في ما خصّ منطقة القرن الأفريقي، وما حولها، فهي تشبه "مجمعاً أمنياً"، تتقاطع فيه المصالح والحاجات الأمنية، أي أن أي دولة أو دولة جديدة منبثقة عن أخرى، أو منطقة متنازع عليها، لا تستطيع تأمين أمنها من دون الأخرى. وهي معروفة بحروبها الكبيرة والصغيرة الداخلية، والحدودية، وصراعاتها الإثنية، وتلك المتعلقة بأمن مجموعاتها الغذائية، من دون إغفال الجماعات المسلحة فيها، الإرهابية، والمرتبطة بتجارة البشر، والمخدرات، والصيد غير الشرعي. وتضم منطقة "القرن"، الصومال، جيبوتي، إريتريا وإثيوبيا، وتغطي حوالي مليوني كيلومتر مربع.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن عدداً من الاتفاقيات الدولية قد أقرت، سعياً للحد من تدفق السلاح في المنطقة، منها الأممية العالمية، (اتفاقية تجارة السلاح أي تي تي – 2013، وبروتوكول نيروبي -2004)، مع وجود اتفاقيات أخرى أممية ودولية، وأفريقية، تعنى بمسألة تدفق الأسلحة الخفيفة. وفي ما يتعلق بالخفيفة، فإن الأكثر شيوعاً للاستعمال في منطقة القرن الأفريقي، هي البندقية الهجومية "آ ك 47"، التي يغطي مداها الكيلومتر الواحد، مع وجود أسلحة تقليدية أخرى تغطي مسافات أكبر، وكذلك أسلحة لم يعد متحاربو اليمن بحاجتها، في ظلّ تدفق أخرى أكثر حداثة من الدول الراعية للحرب.
الحرب اليمنية وتدفق السلاح
بات الباحثون اليوم يختلفون حول استخدام مصطلح "تدفق" أو "انتشار" السلاح، فالأول يعني ذهاب السلاح إلى كيانات وشبه كيانات مرتبطة بصراعات دول في ما بينها، أو داخل دولة واحدة، تكون القوات الحكومية، أو شبه الحكومية، طرفاً فيها. أما من ناحية "الانتشار"، فالسلاح يذهب إلى أي مجموعة تدفع السعر الأعلى له، أكانت فرداً أو أكثر، وتكون مرتبطة بالجماعات التي تتسلح على أنواعها، "الخارجة على القانون".
وفي الحالة اليمنية، فقد باتت حربها، وقوداً مهماً لـ"انتشار" السلاح في منطقة القرن الأفريقي، ومنه إلى دول أفريقية أخرى، في الغرب والجنوب والوسط. ويقول مايكل هورتون، في دراسة نشرت في يناير/كانون الثاني من العام 2017، إنه لطالما كان اليمن، قبل بدء حرب التحالف السعودي، بازاراً للسلاح المتدفق إلى المنطقة، لكن "شبكات تهريب السلاح المنظمة بشدة، عزّزت نفسها وقوتها مع بداية الحرب". ومع أن تسليط الإعلام العالمي، كشبكة "سي أن أن" و"ميديا بارت" الفرنسية، وحتى المجموعات الحقوقية الدولية، كمنظمة العفو، و"هيومن رايتس ووتش"، قد ركزت في السابق على خطر وصول السلاح السعودي والإماراتي، والذي تبيعه الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى الرياض وأبوظبي، إلى الجماعات المتطرفة في اليمن، كـ"القاعدة" و"داعش"، مع توثيق هذه الظاهرة عبر تقارير استقصائية، وكذلك توثيق قتل هذا السلاح للمدنيين اليمنيين، ومحاولة وقف تزويد الدول الكبرى لهاتين الدولتين به، إلا أن الخطر بات اليوم مضاعفاً، مع ارتفاع منسوب التحذير من "تجارة الموت" التي تعبر البحر للوصول إلى البرّ الأفريقي، لاسيما عبر جيبوتي. وبحسب هورتون، فحتى حين كان لدى اليمن "سلطات تعمل"، فإن هذه السلطات كانت غير قادرة، أو لا ترغب، بضبط السلاح المهرب. وحتى قبل العام 2015، جرى الحديث في الإعلام كذلك عن اعتراض الكثير من السفن التي تحمل الأسلحة الخفيفة والمتوسطة من إيران إلى الحوثيين.
ومع بداية الحرب، ارتبط اسم تنظيم "القاعدة في الجزيرة العربية"، بحسب هورتون، بشبكات تهريب السلاح إلى خارج اليمن، الناشطة على السواحل الجنوبية الغربية لليمن، إذ أصبح التهريب أحد أهم مصادر تمويل هذا التنظيم، الذي استولى وسرق ما يحتاجه منه (من مخازن الجيش اليمني)، وباع الفائض عن حاجته، بل فرض ضرائب كذلك على شبكات التهريب. لكن السلاح، وفق الدراسة، لا يقتصر عبر تهريبه إلى القرن الأفريقي، على تنظيم "القاعدة"، أو جماعات تهريب السلاح، التي تعتبر "الوسيط الثاني"، بل إن جميع أطراف الحرب شاركوا فيها، لتعزيز مواردهم، أو لتعطل قبضهم رواتبهم من الجهات المحركة والداعمة لهم.
وبحسب هذه الدراسة، فبخلاف اليمن، يعد السلاح في الصومال أقل توفراً، وذلك لأن هذا البلد "لطالما اعتبر محطة مرور للسلاح إلى مناطق أفريقية أخرى". وبسبب ذلك، وسنوات الحرب الطويلة في الصومال، فإن السلاح فيه أغلى سعراً من اليمن، وهو ما زاده أيضاً محاولة حركة "الشباب" المرتبطة بـ"القاعدة"، تخطي نطاقها الجغرافي الضيق، عبر تحديث ترسانتها من الأسلحة، بالسلاح اليمني الذي وصل من التحالف السعودي الإماراتي للأطراف المحلية التي تدعمها على الأرض.
وفي دراسة حديثة لهورتون، نشرت على موقع مؤسسة "جايمس تاون" البحثية، في 17 إبريل/نيسان الماضي، يقول الباحث إن "حرب اليمن، والعدد الضخم من السلاح والمعدات الذي أمنته السعودية والإمارات، قد أطلقت عهداً ذهبياً للمهربين الإقليميين". ويشرح هورتون، أن الاختلاف في سعر السلاح بين اليمن ودول القرن الأفريقي، يجعل لُعاب تجار ومهربي السلاح يسيل، فإذا كانت بندقية "جي 3" (ألمانية الصنع من "هيكلر أند كوش") التي توفرها السعودية بأعداد كبيرة للقوات اليمنية التي تدعمها، تباع في أسواق السلاح اليمنية بـ500 دولار أميركي، فإنها تباع بثلاثة أضعاف في الصومال، وفي إثيوبيا، بست مرات أكثر. أما الأسلحة المتقدمة أكثر، كتحديثات قاذفات الـ"آر بي جي"، المتوفرة على نطاق واسع في اليمن، فإن سعرها قد يبلغ عشرة أضعاف ذلك خارج هذا البلد. وبحسب تصريح لفرناندو كارفاجال، وهو أحد الأعضاء السابقين في لجنة خبراء مجلس الأمن الدولي، وراقب تدفق السلاح من وإلى خارج اليمن، لموقع "إنسايد آرابيا"، في يناير/كانون الثاني الماضي، فإن الأطراف المتحاربة في اليمن "لا تحتاج مثلاً إلى بندقيات آ ك 47، وأغلب الشحنات المهربة تحمل الآلاف منها".
أما حول خطوط التهريب، التي تمر عبر باب المندب (20 ميلاً من المياه تفصل الساحل اليمني عن جيبوتي)، فيشرح الباحث، في تقريره، أن القوارب الصغيرة مخصصة لتهريب الأسلحة الصغيرة إلى سواحل جيبوتي وإريتريا، أما غالبية الأسلحة على السفن الأكبر، فتصل إلى الصومال، حيث تفرّغ حمولتها مع القوارب الصغيرة من الأسلحة، لتكمل بحمولتها "الشرعية". ويضيف أن نسبةً ضئيلة من السلاح المُهرب والمُفرّغ في الصومال، يبقى في هذا البلد، أما السوقان الرئيسان فهما جنوب السودان وإثيوبيا. وفيما يذهب الكثير من السلاح داخل إثيوبيا إلى مجموعاتٍ محلية متصارعة، لاسيما على خلفيات إثنية، فإن جنوب السودان بحدّ ذاته يعتبر مركزاً لسوق تهريب السلاح، حيث يبيعه سماسرة السلاح إلى سماسرة آخرين ومجموعات مسلحة في جمهورية أفريقيا الوسطى وأوغندا، وكذلك في تنزانيا وموزمبيق.
في المحصلة، يساهم وقود الحرب اليمنية، في تعزيز خارطة تهريب السلاح في القارة الأفريقية. وفيما تبدو دول، كجيبوتي وإثيوبيا، عناوين لدول يراها الغرب واعدة، ومقصداً للاستثمار، ويتنافس فيها لاعبون إقليميون ودوليون، إلا أن غياب استراتيجيات فعالة لحكومات دول المنطقة لتفكيك السلاح، يظلّ العائق الأكبر في وجه إمكانية ضبط السلاح المهرب، وخمود التوترات. هكذا، يبدو تفكيك شبكات تجار الأسلحة، مهمة مستحيلة، في منطقة حبلى بالتدخلات الأجنبية، والمطامع والأجندات. وليس اليمن إلا مثالاً واحداً، يفيض بالموت إلى خارج حدوده.