تونس: الانقسامات السياسية تهدد الائتلاف الحكومي

31 مايو 2020
ولدت حكومة الفخفاخ من رحم التناقضات (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -

تمرّ حكومة إلياس الفخفاخ في تونس بمرحلة صعبة، بسبب الخلافات التي تشقّ الأحزاب المكونة لها، من دون أفق واضح لمحاصرة هذه الخلافات والحدّ من تداعياتها بسبب عمقها من ناحية، ودخول أطرافها في مرحلة عناد واضحة ومحاولات متبادلة للمحاصرة وتقليم أظافر كل منها للآخر، من ناحية أخرى.

ولم يكن مفاجئاً أن تصل الحكومة إلى هذه الوضعية، فقد ولدت أصلاً من رحم خلافات وتناقض سياسي سبق تشكيلها بسنوات بين هذه الأحزاب، واشتعلت خلال الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية الأخيرة. وقد جاءت محاولة تشكيل حكومة حبيب الجملي من طرف حركة "النهضة"، بصفتها الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان، لتعمّق الخلاف بين الأطراف الرئيسية التي تشكل الائتلاف الحكومة الحالي: "النهضة" و"حركة الشعب" وحزب "التيار الديمقراطي"، قبل أن ينضم إليها الحليف الرابع "تحيا تونس".

ومع سقوط حكومة الجملي وفشلها في نيل ثقة البرلمان واقتراب انقضاء الآجال الدستورية، وافقت "النهضة" مكرهةً على الدخول في حكومة الفخفاخ، تفادياً للحلّ الأخير المتمثل في حلّ البرلمان، مشترطةً أن يتم توسيع التحالف الحكومي بعد فترة، ليشمل على وجه الخصوص "ائتلاف الكرامة"، وحزب "قلب تونس". ومنعت جائحة كورونا من الخوض في هذه التفاصيل، إلا أنّ متغيرات كثيرة حصلت في الأثناء وعمّقت من حجم الخلافات، إذ بدا لـ"النهضة" وكأن الأحزاب الأخرى المتحالفة معها تحاول تشديد الحصار عليها وتضييق الخناق على رئيسها، رئيس البرلمان راشد الغنوشي.

وجاءت مكالمة الغنوشي مع رئيس حكومة الوفاق الليبية، فائز السراج، أخيراً، والتعبير عن دعمه لهذه الحكومة المعترف بها دولياً، لتكشف عمق هذه الخلافات، إذ كان مفهوماً بالنسبة لـ"النهضة" أن يبادر منافسها الأكبر، الحزب "الدستوري الحر"، للتنديد بهذه المكالمة، إلا أنّ انضمام أحزاب التحالف الحكومي لـ"الدستوري الحر" أكّد لها نهائياً أنّ مخاوفها كانت في محلها.

فقد أكدت الكتلة الديمقراطية (التي تضم "حركة الشعب" وحزب "التيار الديمقراطي" وكلاهما في الحكومة)، رفضها تجاوز رئيس مجلس النواب صلاحياته التي حددها الدستور والنظام الداخلي للبرلمان، وذلك بعد اطلاعها على فحوى المحادثة الهاتفية بين الغنوشي والسراج. واعتبرت الكتلة، في بيان لها، أنّ الموقف الذي أعلنه رئيس مجلس نواب الشعب "قد يوحي خطأً بأنّ تونس تساهم في تأجيج النزاع المسلح الذي يمزق الشعب الشقيق". ودعت الكتلة الأطراف السياسية كلها في تونس، ومؤسسات الدولة جميعها، إلى التمسّك بالموقف الرسمي التونسي الرافض لكل تدخل عسكري أجنبي في الشأن الليبي، مؤكدةً أنّ "النزاع بين الليبيين لا يحلّ ويحسم إلا بلغة الحوار، وأي دور لتونس في ذلك هو من صلاحيات الدبلوماسية التونسية وعلى رأسها رئيس الجمهورية".

وتفهم "النهضة" من ذلك أنّ هذه الأطراف، القريبة من الرئيس قيس سعيّد والتي كانت قد أسقطت حكومة الجملي ودعت إلى تشكيل حكومة الرئيس، تريد أن تحدّ من حراك الغنوشي وتقلّم أظافره الدبلوماسية، وتضعه تحت طائلة التهديد بسحب الثقة منه في البرلمان، وهو الذي تعوّد على توسيع اتصالاته الدولية حتى في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

في السياق، رأى المحلل السياسي ماجد البرهومي أنّ "الائتلاف الحكومي ومنذ تشكيله كان هشاً، وكأنه تقريباً في موت سريري، ولكن كان لا بدّ من حكومة لأنه لا يمكن المواصلة بحكومة تصريف أعمال"، موضحاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "الوضع كان صعباً وكان تشكيل حكومة تمارس دورها أمراً ملحاً". وتابع: "لكن ما وصلنا إليه كان وضعاً متوقعاً بسبب الاختلافات الجوهرية بين مكونات الحكومة، وفي أول امتحان أو ملف كانت هذه المواقف المتباينة ستبرز وتخرج إلى السطح". وأوضح البرهومي أنّ "أول ملف كان يتعلّق بالسياسة الخارجية وتجسّد في المكالمة بين الغنوشي والسراج"، مشيراً إلى أنّ "التباين كان واضحاً بين النهضة وحركة الشعب في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية؛ سواء بشأن ليبيا أو سورية أو أي أزمة أخرى، وهو ما كان ينبئ بانفراط العقد الحكومي".

وللخروج من هذا الحصار، كانت "النهضة" تنوي إشراك حزب "قلب تونس" في الحكومة، وهو الحزب الذي ساهم في وصول الغنوشي إلى رئاسة البرلمان، ولكن النائب والقيادي في حزب "التيار الديمقراطي"، هشام العجبوني، رأى في منشور عبر صفحته بموقع "فيسبوك" أخيراً، أنّ الحركة في ضغطها الذي تُمارسه من أجل توسيع الائتلاف الحاكم "لا تبحث عن التوافق، بل هو حق أُريد به باطل"، حسب تعبيره.

وقال العجبوني إنّ "هدف حركة النهضة، أو بالأحرى هدف شقّ من شقوقها، لم يكن أبداً البحث عن التوافق الواسع والمصلحة الوطنية وغيرها من الشعارات المعدّة للاستهلاك الداخلي والخارجي، بقدر ما هو السعي إلى نقل الأغلبية البرلمانية المتشكّلة داخل مكتب المجلس من الثلاثي: حركة النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة، إلى داخل الحكومة. وبالتالي تعويم وزن رئيس الحكومة والأحزاب المساندة له، وتحديداً حركة الشعب والتيار الديمقراطي، وكذلك ضمان بقاء رئيس النهضة راشد الغنوشي على رأس البرلمان بعد الدعوات المتكررة لسحب الثقة منه".

إلا أنّ هناك معطى جديداً دخل على خطّ المساعي المستهدفة للغنوشي، وربما يخلط أوراق "النهضة" ويربك حساباتها. فقد انضمت كتلة "قلب تونس" لكتل "الإصلاح" و"تحيا تونس" و"المستقبل"، ودعت بدورها رئاسة مجلس النواب، "إلى احترام الأعراف الدبلوماسية وتجنب التداخل في الصلاحيات مع بقية السلطات، وعدم الزجّ بالمجلس في سياسة المحاور، انسجاماً مع ثوابت الدبلوماسية التونسية"، مطالبةً في بيان لها، "بعرض المسألة في أول جلسة عامة مقبلة، للتداول في شأنها من قبل النواب".

ويبدو أنّ جلسة يوم 3 يونيو/ حزيران المقبل في البرلمان، ستحدّد نهائياً مستقبل التحالفات والحكومة، وستوضح مستقبل المشهد السياسي في تونس.

ويتّضح أنّ حسابات الأحزاب التونسية متداخلة ومركبة بين الحكومة والبرلمان، وفي علاقتها بالرئاسة وبالشأن الدولي والملفات الكبرى جميعها، إذ تتقاطع أحياناً وتتناقض أحياناً أخرى، ولكنها تبقى تهديداً مستمراً للاستقرار السياسي، وأول التهديدات هو ما يتعلّق ببقاء هذا التحالف الحكومي.

وتعليقاً على هذه التطورات، اعتبر القيادي في حركة "النهضة" نوفل الجمالي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "التجارب الائتلافية في أغلب البلدان تمرّ بصعوبات، وبالتالي من السابق لأوانه الحكم على الائتلاف الحكومي، إذ لا بدّ من المزيد من الوقت لتحقيق الانسجام والاتفاق على نقاط معينة، ولا يمكن تحميل بعض الخلافات أكثر مما تحتمل، خصوصاً في الظرف الحالي".

وأوضح الجمالي أنّ "على السياسيين أن يتحلوا بمزيد من الرصانة والصبر ويتركوا الوقت للائتلاف الحكومي لكي ينسجم"، مبيناً أنه "من الطبيعي أن تكون هناك خلافات، فالحكومة حديثة العهد، ومنذ بداية تشكيلها كان أمامها تحدي مجابهة فيروس كورونا، ولم يكن من السهل العمل، فالظروف صعبة وهناك العديد من الضغوطات". وأشار الجمالي إلى أنّ "النتائج التي تم تحقيقها في مجابهة كورونا تبدو إيجابية ومشجعة، وهذا قد يساهم في دفع الائتلاف الحكومي إلى مزيد من العمل، ولكي يبني تحالفاً حقيقياً مستقبلاً".

وحول موقف "قلب تونس" المساند لـ"الحزب الدستوري الحرّ"، على الرغم من دفاع "النهضة" عنه، قال الجمالي إنّ "الأطراف في البرلمان تلتقي في نقاط وتختلف في أخرى، ولكن ما لا يجب الاختلاف حوله هو المصلحة الوطنية، والتضامن بين مختلف هذه الأطراف، سواء تلك المشكّلة للائتلاف الحكومي أو تلك التي خارجه". وقال إنّ "من عادات الحركة عدم الحكم على الأشياء في جانب واحد، بل النظر إلى الأمور في شموليتها وليس في تفاصيلها".

المساهمون