لم يطرح المتسابقون على منصب رئاسة تونس في الانتخابات المبكرة، المقررة في 15 سبتمبر/ أيلول المقبل برامجهم بعد، ولا يعلم التونسيون تصوّرهم لخلافة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، الذي خلّف تركة دبلوماسية ثقيلة وإرثاً سياسياً وازناً، نصفه مكاسب والنصف الآخر أشبه بالدين ومبادرات رئاسية عالقة ورهانات دستورية معطلة. وأطلق غالبية المرشحين الذين بلغ عددهم 97 مرشحاً، توصيفات ونعوتاً وصوراً رسموها للرئيس المقبل، تمحورت حول الوفاق السياسي والوئام الوطني وتجميع التونسيين ووعود مختلفة، بعضها لا علاقة له بصلاحيات الرئيس الدستورية ومسؤولياته التنفيذية. واعتبر رئيس الحكومة يوسف الشاهد مرشح حزب "تحيا تونس" للرئاسة غداة طرح ترشحه: "أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون متشبّعاً بمفهوم الدولة وضامناً لاحترام الدستور، ويسعى لإعادة الثقة والأمل للتونسيين وله قدرة اتصالية، ويجب أن تكون يداه نظيفتان وفكره نظيفاً".
من جهته، قال رئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو، مرشح حزب النهضة، في أول حديث صحافي بعد ترشحه أن "المرحلة المقبلة هي مرحلة توحيد الجهود وتجميع الكفاءات"، معبراً عن تشرفه بوضع نفسه في خدمة الوطن، على أمل الوصول إلى تحقيق الوحدة الوطنية والتقريب بين أطراف الوطن وتحقيق كرامته وعزّته مع جميع التونسيين، والحفاظ على مكاسب الجمهورية ودعم مؤسسات الدولة. ووصف الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي مرشح حزب الحراك وتحالف تونس أخرى، في حديث إذاعي أن الرئيس يجب أن يكون أباً لكل التونسيين، وأن يسع قلبه الجميع وأن يكون جامعاً لكل أطياف المجتمع ومكوناته.
واعتبر المؤدب أن السبسي أخفق في التخلي عن عباءته الحزبية، نداء تونس، بسبب نجله حافظ قائد السبسي وقيادات من الحزب الذي أسسه، فبرز خلال ولايته تداخل كبير بين الحزب ومؤسسة الرئاسة في الخطابات والتحركات، لافتاً إلى أن تدخل نجله السبسي الابن كان طيلة ولايته محل انتقاد وتندر من خصومه ومنافسيه، وخصوصاً عند أزمة مرض الرئيس قبل وفاته، حتى كاد يتحول إلى متحدث باسم رئاسة الجمهورية وسط غضب المتابعين من ذلك.
ويحتاج الرئيس المقبل إلى التخلي عن قبعة حزبه كما يفرضه الدستور، بحسب المؤدب، حتى يقدر على لمّ شمل الفرقاء وتسهيل التوافق بينهم كلما حصلت أزمة. كما يجب أن تكون له القدرة على إدارة مختلف الأزمات التي قد تمرّ بها البلاد في المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً، التي يتوقع أن تكون أزمات عدة في حال كانت تركيبة البرلمان غير متجانسة، وكان رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان من أطياف سياسية متصارعة بشكل يؤزم الصراع بين السلطات، وخصوصاً بين رأسي السلطة التنفيذية، في مشهد يعيد آخر فترات حكم السبسي وصراعه مع رئيس الحكومة الشاهد بعد فشل مرحلة حوار قرطاج.
نجح الرئيس الراحل السبسي على المستوى الدبلوماسي من خلال شهادات قادة وزعماء الدول الصديقة والشقيقة لتونس، وتمكن خلال ولايته من رسم محطات فارقة في مسار الخارجية التونسية التي يشرف عليها باعتباره قائد السفينة الدبلوماسية التونسية، حسبما يمنحه الدستور من صلاحيات. رحل السبسي بعد أن حظيت تونس بعضوية غير دائمة في مجلس الأمن في يونيو/حزيران المقبل، وينتظر من الرئيس المقبل أن يُحسن إدارة هذا الموقع ويعزز به صورة تونس ومكانتها الخارجية، وألا ينقلب على تعهدات السبسي مع من دعّم صعود تونس في مجموعتها، ممثلة لدول عربية وأفريقية. إذاً التزمت تونس كما جاء في كلمة وزير الخارجية خميس الجهيناوي، "بدفع جهود الوساطة وتفعيل الدبلوماسية الوقائية لمنع الصراعات وتوطيد السلام المستدام، ودعم جهود وبرامج مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف"، والعمل على "إيجاد حلول للقضايا العربية الراهنة، ولا سيما في ظل ما يشهده الوضع العربي من توتر غير مسبوق بسبب ضعف منظومة العمل العربي المشترك".
وتميزت تونس خلال ولاية السبسي بمواقفها المتزنة والمحايدة والرصينة في سورية، والعدوان على اليمن وفرض الحصار على قطر والثورة في السودان، ومن أجل مواقفها كان التوافق العربي والأفريقي على دعم تونس في مجلس الأمن، وهو ما عزز خيار الرئيس السبسي المتمثل في "الحرص على النأي عن سياسة المحاور عند التعاطي مع أزمات المنطقة والحفاظ على توازن علاقاتها مع جميع الأطراف، عبر التمسّك بثوابتها الرافضة للتدخّل في الشؤون الداخلية للدول وتأييد مسارات الحوار والتسوية السياسية".
واعتبر الخبير الدبلوماسي عبد الله العبيدي في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن خيار السبسي الدبلوماسي ومواصلته في نهج بورقيبة الدبلوماسي نجح في التعامل مع الأزمة الليبية، ببقاء تونس على نهج الحياد من أطراف النزاع ودفعها للحوار والتسوية بإطلاق مبادرة رئاسية للحوار الثلاثي مع الجزائر ومصر، ثم انحيازه للشرعية الأممية بدعمه مساعي المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة. وهو ما جعل تونس محل ثقة جميع الأطراف الليبية وملجأً للاحتكام وإدارة الخلافات على أرضها.
ولفت إلى أن رهان إنجاح قمة الفرنكوفونية التي ستلتئم بتونس أواخر عام 2020 ستكون من أبرز امتحانات الرئيس المنتخب، وستتم مقارنة أدائه وإدارته للشأن الخارجي والدبلوماسي انطلاقاً من هذه المحطات والمسؤوليات والمواقف من الأزمات، بما يفرض عليه مواصلة توطيد العلاقات مع الجميع، داخلياً وخارجياً، والمحافظة على صورة تونس في الخارج.
ونجح السبسي في إخراج مجلس الأمن القومي من دوره التقني والأمني والعسكري الصرف، طارحاً عبره أدواراً أكبر عند كل أزمة وتحدٍ أمني أو خطر إرهابي على الحدود أو في الداخل، إلى حدّ دفع به السبسي خلال نهاية عهدته، للتطرق إلى ما يعرف بقضية الجهاز السرّي، وتورّط أحزاب وشخصيات سياسية فيها، اعتبره منتقدوه توظيفاً لهياكل الرئاسة في خدمة مصالحه السياسية وتوجيهاً لمؤسسات الدولة، للضغط على القضاء، فيما استحسن آخرون هذا التوجه، واعتبروه ضرورة للكشف عن الاغتيالات السياسية وفتح ملفات مغلقة وصناديق سوداء مسكوت عنها. ويواجه الرئيس العتيد ما انطلق فيه السبسي وما شرع له من اختصاصات جديدة لمجلس الأمن، ليجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما مواصلة نهجه وإما العودة بالمجلس إلى الخفاء والعمل التقني. كما خلف السبسي مبادرات رئاسية بقيت عالقة من بعده، على غرار قانون المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي بقي مطروحاً في البرلمان، ويفرض الدستور على مجلس الشعب الجديد أن يحسم فيه، إما بالمصادقة وإما بإسقاطه ورفضه، إلى جانب قانون الطوارئ المعطّل في البرلمان أيضاً، الذي يُنتظر أن يُعرض على المجلس العتيد. وسيجد الرئيس الجديد نفسه أمام الالتزام بإتمام ما بدأه السبسي في المبادرات التشريعية الرئاسية، في إطار استمرارية الدولة والدستور. كما ينتظر الرئيس المقبل تعيين 4 أعضاء في مجلس المحكمة الدستورية، والضغط على البرلمان لإتمام انتخاب أعضائه.