تدخل الانتفاضة العراقية مرحلةً حرجةً من عمرها الذي يوشك أن ينهي شهره الرابع. فمع تصعيد السلطة آلة القمع للأسبوع الثاني على التوالي، مسجلاً سقوط ضحايا ومصابين جدد، تصدرت بغداد وذي قار والبصرة وكربلاء كالعادة أعدادهم، يعود خطاب التحريض الموجه ضد التظاهرات والناشطين عبر اتهامهم بتنفيذ أجندة أميركية وصهيونية، للبروز، بعدما كان قد تلاشى منذ نحو شهر ونصف شهر إثر خطبة المرجعية الدينية في النجف، التي أيّد فيها السيد علي السيستاني التظاهرات، مؤكداً مشروعية مطالبها. هذا الدعم من النجف، استعيد خلال اليومين الماضيين، بحسب ما كشف مصدر عراقي مطلع، لوقف خطة السلطة الهادفة إلى فضّ الحراك، الذي استعاد بدوره زخمه أمس الأحد، بدعمٍ طلابي، لتعويض انسحاب التيار الصدري، وهو يتحضر لـ"مليونية" قريبة، تأكيداً لمطالبه.
وقف الفضّ
ويبدو أن السلطات العراقية أوقفت خطة السيطرة على ساحات التظاهرات عسكرياً، بعد المواجهات التي اندلعت في ثلاث محافظات فجر ونهار أول من أمس السبت، وأدت إلى مقتل وإصابة عشرات المتظاهرين.
وأمس الأحد، توافد آلاف العراقيين إلى ساحات التظاهر استجابةً لنداءات وجهها ناشطون بهذا الشأن، في وقت أكد فيه قيادي بارز في تحالف "الفتح"، لـ"العربي الجديد"، أن تدخلاً عاجلاً من النجف حال دون إكمال الحكومة توجهها لفضّ جميع التظاهرات والاعتصامات. ولفت المصدر إلى أن الأمم المتحدة دخلت أيضاً على الخط، لكن في وقت كانت فيه الحكومة قد أمرت القوات الأمنية بوقف تحركها والتزام مواقعها وتجنب الاحتكاك مع المتظاهرين. وبحسب المصدر، فإن رئيس حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي، اعتبر أن أمر فضّ التظاهرات أو احتوائها بشكل أو بآخر، يجب أن يكون من مهمة رئيس الوزراء المقبل، مطالباً بسرعة حسم تكليف مرشح جديد للحكومة.
وأمس الأحد، استعاد المتظاهرون العراقيون جزءاً مما خسروه من مواقع تظاهراتهم واعتصاماتهم فجر السبت، في ساحتي البحرية وأم البروم بالبصرة، وجسر الفهود في الناصرية عاصمة محافظة ذي قار، كذلك ساحة الخلاني في بغداد، بالتزامن مع دعمٍ كبير تلقته الساحات من طلاب جامعات ومعاهد وثانويات في بغداد وجنوب ووسط البلاد، أطلق عليها اسم "دعم المدّ الأبيض"، في إشارة إلى القمصان البيضاء لطلاب الجامعات، ما عزّز من زخم المتظاهرين وحشودهم في ساحات التظاهرات وميادينها. واعتمد متظاهرون في بغداد والناصرية شعار "الوعي قائد"، ليُعتمَد فيما بعد بالساحات والميادين في باقي محافظات العراق، وذلك في إشارة اعتبرت أنها رد على زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر الذي تخلى عن دعم التظاهرات العراقية.
وقال الناشط العراقي البارز، أحد أعضاء "إذاعة التحرير" التي تبث من ساحة التحرير في بغداد، أحمد الموسوي، لـ"العربي الجديد"، إن المتظاهرين أمام "مهمة الحفاظ على الثورة"، متحدثاً عن وجود "خبثٍ سياسي بخبرة تمتد إلى 17 سنة لقوى وأحزاب توحدت ضد التظاهرات، وماكينات إعلامية ومكائد ومخططات". وإذ رأى الموسوي أن الناشطين "أضعف من مواجهة" هذا "الخبث"، فقد دعاهم إلى "العودة إلى التخندق تحت المطالب التي رفعناها من اليوم الأول، والابتعاد عن أي مناوشات مع أي طرف سياسي، فهو الخيار الوحيد الذي اعتُمد". واعتبر الناشط أن "مهاجمة شخصيات سياسية بعينها، أو تزوير بيانات باسم المتظاهرين، جزء من مؤامرة كبيرة تهدف إلى خلق فتنة بين الصدريين والمتظاهرين"، لافتاً إلى أن المتظاهرين "سيصدرون اليوم الاثنين بياناً يتبرأون فيه من أي متحدث باسمهم أو أي جهة تقدم نفسها على أنها ممثلة عنهم أو تتبنى مهاجمة طرف سياسي ما، ما يقع ضمن مخططات حرف التظاهرات وتشتيت الناس عنها".
حصيلة الضحايا
وسجلت مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار)، أمس الأحد، مقتل متظاهر وإصابة 75 آخرين، خلال مواجهات مع قوات الأمن العراقية ممثلة بالجيش وجهاز فضّ الشغب، في الوقت الذي أصيب فيه سبعة متظاهرين في البصرة خلال تظاهرات واسعة عادت إلى ساحتي البحرية وأم البروم بعدما استعادها المتظاهرون مجدداً، لكن من دون نصبٍ خيم، خشية تعرضها للحرق مجدداً.
وشهدت الديوانية والسماوة والحلة والهاشمية والنعمانية والعمارة والكوت والكحلاء والغراف والنجف والكوفة وكربلاء التي سقط فيها تسعة جرحى أيضاً خلال المواجهات أول أمس، تظاهرات حاشدة الأحد، شكّل طلاب الجامعات أكثرية فيها، بعدما رفضوا دعوات استئناف دوام الدراسة الرسمي. وفي بغداد، وعلى الرغم من الانتشار الأمني الكبير، اكتظت ساحة التحرير وجسر الجمهورية ونفق السعدون ومحيط المطعم التركي بالمتظاهرين، وهو ما كانت معتادةً رؤيته خلال أيام العطلة فقط، وليس في أيام الأسبوع.
مليونية وطن
ويحشد المتظاهرون لتنظيم تظاهرة كبرى في 31 من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، أطلق عليها اسم "مليونية وطن"، ودعي إليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال قصاصات ورقية وزعت في ساحات ميادين التظاهرات.
من جهتها، أكدت مفوضية حقوق الإنسان العراقية، توثيق مقتل 12 متظاهراً في بغداد وذي قار، وإصابة 230 متظاهراً، منهم 118 في بغداد و78 في ذي قار و34 في البصرة، فضلاً عن تسجيل 89 حالة اعتقال لمتظاهرين في محافظتي بغداد والبصرة. وفيما لم تُشر المفوضية في بيانها إلى المدة الزمنية التي سقط فيها هؤلاء القتلى والجرحى، أوضح مصدر مسؤول فيها لوكالة "الأناضول"، أن الإحصائية تشمل يومين السبت والأحد (أمس وأول من أمس).
وأكدت المفوضية في بيان استمرارها في توثيق التظاهرات الحاصلة في بغداد وعدد من المحافظات، مبدية أسفها وقلقها "للأحداث التي رافقت التظاهرات، والتي أدت إلى سقوط شهداء ومصابين من المتظاهرين والقوات الأمنية، ما يُعَدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان".
سياسياً، كشفت مصادر سياسية عراقية مطلعة، لـ"العربي الجديد"، عن اتفاق سياسي بين غالبية القوى السياسية مع رئيس الجمهورية برهم صالح، على حسم تسمية رئيس الحكومة المقبل، على وقع تصعيد موجة الاحتجاجات. وقالت ثلاثة مصادر سياسية مطلعة، أحدها وزير بحكومة تصريف الأعمال، إن "اتفاقاً سياسياً، يقضي بحسم تسمية رئيس الحكومة الجديد خلال أيام قليلة، أو ساعات قليلة حال انتهاء المشاورات بنجاح". ووفقاً لأحد المصادر، فإن الاتفاق جاء بعد تصعيد موجة الاحتجاجات الشعبية، بالإضافة إلى غضب المرجعية الدينية المتزايد على الطبقة السياسية ورفضها تصعيد القمع. وأضافت أن الأسماء المطروحة حالياً لتكليفها تشكيل الحكومة هي كل من محمد توفيق علاوي وعلي شكري وعبد الغني الأسدي، لكن الأوفر حظاً هو رئيس جهاز الاستخبارات الحالي مصطفى الكاظمي الذي يحظى بتوافق أغلب الكتل السياسية حوله.
في الأثناء، حملت التغريدة التي نشرت على حساب باسم صالح محمد العراقي (الذي يوصف عراقياً بأنه المتحدث وزير مقتدى الصدر الإعلامي)، تحذيراً واضحاً من زعيم التيار الصدري من محاولات بعض الجهات ركوب موجة التظاهرات، في تبرير لقرار انسحابه من المشاركة فيها. ونقلت التغريدة عن مقتدى الصدر قوله: "إذ أوقفت الدعم الإيجابي والسلبي إن جاز التعبير (في إشارة إلى دعمه للمتظاهرين)، إنما أردت إرجاع الثورة الى مسارها ورونقها الأول، لا إلى معاداتها. وإن لم يعودوا (المحتجون) فسيكون لنا موقف آخر لمساندة القوات الأمنية البطلة، التي لا بد لها من بسط الأمن، لا الدفاع عن الفاسدين، بل من أجل مصالح الشعب ولأجل العراق وسلامته".