كشفت أزمة فيروس كورونا المستجد عن مستويات مختلفة من الأداء السياسي، على صعيد مؤسسات وشخصيات وأحزاب، ونظام سياسي لا يزال يبحث عن توازنه وركائزه. ووصل الوباء إلى تونس في قلب صراع سياسي غير خافٍ بين مكونات النظام في البلد؛ برلمان ورئاسة جمهورية ورئاسة حكومة، ولا تزال هذه الخلافات متواصلة إلى اليوم. ويأتي السجال حول مسألة تفويض البرلمان إلى الحكومة إصدار المراسيم من دون العودة له لمواجهة الأزمة، ليؤكد من جديد أنّ هناك مناخاً من عدم الثقة بين الأطراف السياسية، ومخاوف متبادلة بسبب التنازع على السلطة، تتسرب أحياناً في المنافسات الصامتة وغير المباشرة في إدارة الأزمة، حتى على مستوياتها التقنية البحتة.
وبغضّ النظر عن التضارب بين السلطات الذي برز بقوة في الأيام الأولى لتفشي الفيروس في تونس، فإنّ الرئيس قيس سعيّد نفسه كشف أكثر من مرة في تصريحات مختلفة، عن عمق هذا الصراع، بإشارته إلى ضرورة احترام كل سلطة لصلاحيات الأخرى، فضلاً عن تأكيده خلال اجتماع مجلس الأمن القومي يوم الجمعة الماضي، أنه "لا مجال لأخذ قرارات من قبل أي سلطة محلية أو جهوية من دون الرجوع إلى السلطة المركزية والتنسيق معها"، مشدداً على أنّ "هناك دولة واحدة موحدة، ولا مجال في تونس لمن يريد أن يضعف الدولة ومؤسساتها".
هذا التصريح أثار حفيظة "الكونفدرالية التونسية لرؤساء البلديات" (منظمة تجمع المجالس البلدية المنتخبة)، التي عبّرت في بيان يوم السبت الماضي، عن استنكارها لتصريحات سعيّد، معتبرةً أنها تعدّ "استنقاصاً من دور الجماعات المحلية المتمثلة بالبلديات ومجالسها المنتخبة، والتفافاً واضحاً على مقتضيات الدستور في بنده السابع المتعلق بالسلطة المحلية ومهامها".
واعتبرت "الكونفدرالية" أن "القرارات الهامة التي اتخذتها المجالس البلدية في مختلف جهات البلاد للحدّ من تداعيات جائحة كورونا، استبقت بأشواط قرارات السلطة المركزية"، مضيفةً أنّ "الحكم المحلي ركيزة العمل التنموي، ومنطلقاً لكل القرارات التي يمكن أن تخدم المواطن في منطقته لأسباب مرتبطة بالقرب منه ومن مشاغله، وهو حري بتثمين جهوده وتطوير آلياته وليس تهميشه وإرجاعه إلى مربع الطاعة للسلطة المركزية، بعد خيار الدولة والدستور لمسار الحكم المحلي واللامركزية".
بدوره، قال رئيس "الكونفدرالية التونسية لرؤساء البلديات"، عدنان بوعصيدة، في تصريح لوكالة الأنباء التونسية أخيراً: "لا بدّ من إبعاد مسار الحكم المحلي عن التجاذبات السياسية وتدعيم القدرات المادية والبشرية للبلديات، حتى تكون قوة تغيير وتنمية، وليس سلاحاً لضرب الخصوم السياسيين"، مشيراً إلى أنّ "الحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد كانت قائمة على تعزيز دور الحكم المحلي، ولا نفهم الهدف من تصريحاته الأخيرة بخصوص إرجاع القرارات إلى السلطة المركزية".
ويخشى متابعون أن يتواصل هذا الاضطراب بين السلطات، وأن يؤثّر بإدارة الأزمة التي لم تدخل بعد مرحلة الخطورة الكبيرة في تونس، ولكنها تستعد لها.
وفي السياق، اعتبر الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الأداء السياسي على مستوى الحكومة، وتحديداً على مستوى وزارة الصحة وخلية الأزمة المعنية، والإطار الطبي، يمكن اعتباره إيجابياً، إذ تسيطر تونس على الوضع، ولم تصل إلى الأرقام المفزعة للمصابين أو المتوفين"، موضحاً أنّ "هناك سياسة استباقية وتوعوية وعدداً من الاحتياطات التي اتُّخذَت". وتابع: "أمّا على صعيد رئاستي الجمهورية البرلمان، فإنّ أغلب الدعوات للتوحّد واعتبار المعركة صعبة، لا تجد صدى، فالقيادة تبدو غير موحدة تتقاذفها الخلافات وحرب النفوذ، وهو ما يعطي مثالاً سيئاً، لأنّ من المفترض تأجيل المعارك السياسية في الظرف الراهن".
وأوضح الشابي أنّه خلال استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيّد لرئيس الحكومة الياس الفخفاخ أخيراً، "كان هناك تشديد على أن يعمل كل طرف في إطار الصلاحيات الدستورية، في تلميح واضح لرئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي عمل على قيادة الأزمة، واجتمع مع العديد من الجهات في مكتب البرلمان، في محاولة للتدخل في صلاحيات السلطة التنفيذية". وأضاف أنّ "البرلمان له دور، ولكن دون الحق بالتدخل في التفاصيل، في الوقت الذي كان يجب أن تقاد المعركة منذ البداية من قبل الحكومة، وتحديداً وزارة الصحة والخلية المعنية بكورونا تحديداً، إذ لا يجب أن يكون هناك أكثر من ربان للسفينة، وإلا فستكون النتيجة وخيمة".
ولفت الشابي إلى أنّ "أطرافاً سياسية سعت أخيراً إلى محاولة مواصلة صراعها السياسي مع خصومها، من دون الأخذ بالاعتبار الواقع الصعب الذي تمرّ به البلاد، وأطلقت إشاعات حول استقالات لقيادات أمنية وإطارات في مؤسسات الدولة، وهي محاولات لإرباك مؤسسة رئاسة الجمهورية من طرف بعض خصومها".
وأشار إلى أنّ "السلطات الحاكمة كان بإمكانها تسجيل نقاط تحسب لها في خدمة البلاد، إلا أنها أخفقت وكشفت عن عيوب في منظومة الحكم السياسي، وأثبتت أنها لا تحسن إدارة خلافاتها. ففي الوقت الذي برزت أغلب النظم السياسية في العالم موحدة في معركتها ضدّ كورونا، لا يزال القائمون على الحكم في تونس يتصارعون في حرب نفوذ، ما يجعل الرئاسات الثلاث في موضع المخفقين في إدارة الأزمة، وعليهم تدارك الوضع سريعاً".
وحول قرارات السلطة المحلية من بلديات ومحافظات، قال الشابي إنّ "الديمقراطية المحلية مكّنت هؤلاء من اتخاذ بعض القرارات، ولو أنها كانت في البداية مكررة من بلدية إلى أخرى، وبعضها متضارب مع السلطة المركزية، إلا أنّ القرارات في الأزمة يجب أن تكون مركزية، وتجري بمزيد التنسيق، والمعركة تتطلب التكامل وليس التناقض".
في المقابل، رأى المحلل السياسي، عبد اللطيف الحناشي، في حديث مع "العربي الجديد"، "أنّ الأداء العام بين مؤسسات الدولة جيد، إذ حصل تحرّك وطني وفق خطة وضعتها وزارة الصحة. وعلى الرغم من الارتباك الذي ظهر في البداية بين مختلف مكونات السلطة السياسية، ولكن سرعان ما جرى تدارك الوضع، والأمور تتجه نحو منحى جديد لضبط الأوضاع"، مضيفاً أنّ "أغلب القرارات مدروسة، واعتُمد التدرّج والمرحلية في اتخاذها، وآخرها نزول الجيش بأمر من رئيس الجمهورية، خصوصاً أنّ قطاعاً واسعاً من التونسيين لم يمتثل لقرارات الدولة".
واعتبر الحناشي أنّ "الارتباك قد يكون مفهوماً، إذ إنّ التعامل مع مثل هذه الأزمة والوباء الخطير يحدث للمرة الأولى، والحرب صامتة ولا بدّ من تضامن جميع الأجهزة، على الرغم من أنّ بعض القرارات لا تحتمل النقد"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ "الارتباك في التعامل مع الأزمة والوضع العام، يعود كذلك إلى تراكم الإشكاليات في ما يتعلّق بالقطاع الصحي والمؤسسات الصحية التي تعتبر غير جاهزة وغير كافية".
ولفت الحناشي إلى أنّ "هناك تضامناً من قبل فئات شعبية واسعة ومؤسسات خاصة وأفراد، والأمر ليس بالسهل والأزمة صعبة وقد تتضاعف"، معتبراً أنّ "المسألة لا يجب تقييمها من زاوية واحدة، إذ إنّ مقارنة الأزمة في تونس بعدد آخر من الدول، تشير إلى أنّ الوضع لا يزال تحت السيطرة، وهناك تضحيات عدة من قبل العديد من المؤسسات الصحية وبقية الوزارات المعنية". وختم بالقول: "إنّ التضامن العام إيجابي، وليس من السهل على بلد مثل تونس بإمكاناته المحدودة تطويق الأزمة بالسرعة المطلوبة".