النظام السوري ينقلب على "المصالحات" تحت أنظار روسيا

22 اغسطس 2018
دفعت اتفاقات "مصالحة" سوريين لترك مناطقهم (أكرم مصري/الأناضول)
+ الخط -
ضرب النظام السوري بعرض الحائط كل تعهّدات الضامن الروسي الموثّقة في اتفاقات "مصالحة" أبرمها الأخير مع المعارضة السورية المسلحة، وتنصّ على إلقاء السلاح والخروج إلى مناطق في الشمال السوري، مقابل تأمين حماية روسية للمدنيين، ولكن النظام وأجهزته استباحت هذه المناطق، فحصلت أكبر عمليات "تعفيش" شهدتها البلاد، فضلاً عن الاعتقالات والقتل تحت التعذيب، ومعاملة سكان هذه المناطق على أنهم "درجة ثانية" معرضون لكل أنواع الانتهاكات.

وتشنّ قوات النظام، منذ أيام عدة، حملة اعتقالات في العديد من المناطق التي أجرت "اتفاقات تسويات" مع النظام مقابل عدم التهجير، شملت محافظة حمص في الوسط، والغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، ودرعا في جنوب البلاد. ولم تتوقف انتهاكات النظام في ما بات يُعرف بـ"مناطق المصالحات" عند هذه الحدود، بل قتلت قوات النظام مدنيين من هذه المناطق تحت التعذيب، ولعل الطبيب معتز حتيتاني، أبرز مثال على ذلك، إذ قضى تحت التعذيب أخيراً بعد اعتقاله في أحد مراكز الإيواء التي خرج إليها أهالي الغوطة الشرقية بالقرب من العاصمة دمشق. وكانت قوات النظام شنّت أخيراً حملة اعتقالات كبرى في منطقة اللجاة في ريف درعا، تحت ذريعة البحث عن "خلايا تابعة لتنظيم داعش"، وأكدت مصادر أهلية أن عشرات المدنيين جرى اقتيادهم من قبل قوات النظام، من منازلهم ونقلهم من قرى في منطقة اللجاة، بذريعة إعلان القرى التي أخرج المواطنون منها منطقة عسكرية، وتأمين مطار خلخلة العسكري. كما أجبر النظام مئات الشباب من هذه المناطق على الخدمة العسكرية في قواته خلافاً لنصوص الاتفاقات التي أشرف عليها الجانب الروسي، ولكن النظام تجاوزها، مسقطاً التعهدات الروسية، فيما لم تتحرك موسكو لإيقاف هذه التجاوزات.

وقبل هذه الانتهاكات، استباحت قوات النظام ومليشيات من الشبيحة الموالية لها، هذه المناطق كلها، وقامت بحملات "تعفيش" كبرى لمنازل المدنيين، تخللتها عمليات تصفيات ميدانية جماعية، واغتصاب، وتنكيل بالنساء والأطفال وثّقتها كاميرات الشبيحة أنفسهم إمعاناً منهم في إذلال سكان هذه المناطق.
ويعامل النظام سكان مناطق المصالحات على أساس أنهم مواطنون "درجة ثانية"، لا حقوق لهم، بل هم عرضة لكل انتهاك من قبل قواته، وأجهزته الأمنية، ومليشيات "الدفاع الوطني" التي تضم شبيحة النظام. وفي هذا الصدد، تفرض قوات النظام على سكان الغوطة الشرقية الراغبين في الوصول إلى العاصمة دمشق، الحصول على موافقات أمنية، وهي ورقة تُمنح بعد إجراء تحقيق مع طالبها يتضمن أسئلة حول ذويه ومن تبقّى منهم داخل الغوطة، ومن خرج منهم نحو الشمال السوري، أو خارج سورية.

وأجرى النظام عن طريق الجانب الروسي اتفاقات "مصالحة" مع العديد من المدن والمناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة، تضمّنت بنوداً متقاربة، تنص على عدم دخول هذه القوات إلى مدن وبلدات، وعدم اقتحامها، أو اعتقال مدنيين، أو مقاتلين في الجيش السوري الحر قاموا بـ"تسوية"، وتأمين الخدمات كافة للمدنيين. وخلال العامين الأخيرين، أجري العديد من اتفاقات المصالحة، منها اتفاق مدينة داريا جنوب غربي دمشق في منتصف عام 2016، والتي سوّتها قوات النظام بالأرض، وجرى نقل مدنيين إلى مراكز إيواء مؤقت لا تتوفر فيها مقومات الحياة الكريمة، ونُقل المقاتلون ومدنيون معهم إلى الشمال السوري.

وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام 2016 أيضاً، جرى اتفاق مدينة معضمية الشام غرب دمشق والقريبة من داريا والذي نصّ على تسليم المعارضة المسلحة في المدينة سلاحها وتسوية أوضاعها، مقابل قيام النظام بالكشف عن مصير المعتقلين والعمل على إطلاق سراحهم، وسحب قواته خارج المدينة، وفك الحصار عنها، وإعادة فتح الأفران ومحطات الوقود، والسماح للموظفين بالعودة إلى عملهم، وإصلاح البنى التحتية وشبكات الكهرباء والاتصالات. ولكن وعود النظام بقيت بلا تنفيذ، بل إنه قام أخيراً بالاستيلاء على ممتلكات المدنيين، خصوصاً الذين اضطروا لمغادرة سورية، وتحوّلت المدينة إلى ما يشبه "السجن الكبير"، وفق مصادر محلية.


وفي مايو/أيار من العام الماضي، هُجّر آلاف المقاتلين والمدنيين من أحياء القابون وبرزة وتشرين في العاصمة دمشق نتيجة اتفاق "مصالحة" مع النظام، أدى إلى تهجير آلاف المقاتلين والمدنيين مقابل الإفراج عن معتقلين، ولكن النظام لم يلتزم بتعهده كالعادة. كما جرت اتفاقات "مصالحة" عدة في ريف دمشق، منها اتفاق مدينة التل شمال العاصمة، ومنطقتي الهامة، وقدسيا، شمال غربي دمشق، ومناطق في ريف دمشق الغربي. كما عُقد اتفاق في وادي بردى شمال غربي دمشق في مطلع العام الماضي، هُجّر بمقتضاه آلاف المدنيين والمقاتلين بعد حملة عسكرية تسبّبت في دمار كبير بالمنطقة، خصوصاً منشأة النبع التي تزود دمشق بالمياه.

وفي مارس/آذار من العام الماضي، أُبرم اتفاق حي الوعر في مدينة حمص وسط البلاد، والذي نصّ على خروج كل من يرغب من مقاتلي المعارضة والمدنيين باتجاه الشمال السوري أو ريف حمص الشمالي المحاصر، وأن تنتشر شرطة عسكرية روسية في الحي لضمان أمن السكان الراغبين في البقاء. ولكن العام الحالي شهد أكبر وأهم اتفاقات "المصالحة" بين الجانب الروسي، والمعارضة المسلحة، والتي شكّلت النموذج الصارخ لعدم وفاء النظام بتعهدات الضامن الروسي، والذي لم يتابع تنفيذ الاتفاق بل انصبّ اهتمامه فقط على خروج المعارضة المسلحة إلى الشمال للحصول على "انتصارات إعلامية"، تُرسخ الوجود الروسي الذي يرقى إلى مستوى الاحتلال، وفق المعارضة السورية. ففي مارس الماضي، أُبرم اتفاق تهجير آلاف المدنيين والمقاتلين من غوطة دمشق الشرقية وحي جوبر الدمشقي عقب حملة عسكرية استخدمت فيها قوات النظام أسلحة محرمة دولياً. وكانت الغوطة أهم معقل للمعارضة، وهو ما يفسر حملات الإذلال الممنهج لمن بقي من سكانها بعد إجراء المصالحة مع النظام عن طريق الجانب الروسي.

وفي إبريل/نيسان الماضي، أُبرم اتفاق "مصالحة" مع منطقة القلمون الشرقي شمال شرقي دمشق، نصّ على نشر الشرطة الروسية على مداخل المدن وعدم دخول قوات الأسد إلى مدن المنطقة، إلى جانب تسوية أوضاع من يرغب في البقاء في المنطقة. وفي أواخر الشهر ذاته، عُقد اتفاق يخص بلدات في جنوب دمشق تحت سيطرة المعارضة، هي: ببيلا، بيت سحم، يلدا، ونصّ على خروج المدنيين الراغبين، ومقاتلي وعناصر الفصائل المنتشرة في البلدات الثلاث، باتجاه مدينة جرابلس شمال حلب ومحافظة إدلب شمال غربي سورية.

وتكرر سيناريو التهجير الذي تعرضت له الغوطة الشرقية ومناطق أخرى، في مطلع مايو/أيار الماضي، حين تم التوصل لاتفاق ريف حمص الشمالي والذي نصّ هو الآخر على تهجير آلاف المدنيين والمقاتلين إلى الشمال السوري، وتسلّم الشرطة العسكرية الروسية إدارة المنطقة بعد خروج المعارضة المسلحة. وفي يونيو/حزيران الماضي، تمت على مراحل اتفاقات مصالحة في الجنوب السوري (درعا والقنيطرة) بين المعارضة السورية والجانب الروسي، نصّت على وقف إطلاق النار جنوب سورية، وتسليم أسلحة المعارضة الثقيلة، ووضع معبر نصيب الحدودي مع الأردن تحت إدارة مدنية وإشراف روسي، وعودة النازحين إلى بيوتهم، إضافة إلى استلام قوات النظام المنطقة الحدودية مع الأردن وخروج الرافضين للتسوية إلى إدلب.

وبقيت محافظة إدلب شمال غربي البلاد، وأجزاء من ريفي حلب وحماة، تحت سيطرة المعارضة، التي تتجهز لحرب طويلة مع النظام الذي يسوّق لفكرة "المصالحة" في هذه المنطقة من خلال موالين له، ولكن ما جرى في مناطق المصالحات السابقة من انتهاكات جسيمة تدفع الشارع المعارض إلى رفض فكرة المصالحة مع النظام، حتى لو كان الثمن حرباً قاسية يهدد بها النظام.

المساهمون