ومنذ طردها من العاصمة المؤقتة عدن، خلال أحداث أغسطس/ آب الماضي، اتخذ الحرس الرئاسي اليمني وألوية من الجيش الوطني من شُقرة ما يشبه قاعدةً عسكرية جديدة، بعد طرد قوات النخبة الشبوانية المدعومة إماراتياً من كافة مناطق شبوة، فيما عزّزت قوات "الانتقالي" من وجودها في السلاسل الجبلية المتاخمة. وعمل "الانتقالي الجنوبي" مراراً على تشويه صورة القوات التابعة للحكومة، بوصفها تارةً أنها تابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين)، وتارة أخرى بزعم أنها مدعومة بعشرات العناصر من تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، في محاولةٍ لنفي أن يكون الصراع جنوبياً خالصاً.
وتتألف القوات التابعة للحكومة المرابطة في شُقرة وشبوة، من ألوية الحماية الرئاسية الأربعة، بالإضافة إلى اللواء 39 مدرع، اللواء 103 مشاة، واللواء 115 مشاة. ولا يُعرف القوام الحقيقي لتلك القوات. ووفقاً لمصادر "العربي الجديد"، فإنها دعمت صفوفها بآلاف المجندين في أعقاب دحرها من عدن، وتفككها حينذاك جرّاء الهجمات التي حظيت بدعمٍ إماراتي كاسح. في المقابل، دفع المجلس الانتقالي الجنوبي بآلاف المقاتلين إلى محافظة أبين من أجل التصدي للشرعية. وتأتي ما تُعرف بـ"قوات الدعم والإسناد" و"الحزام الأمني والتدخل السريع" على رأس تلك التشكيلات التابعة للانفصاليين.
وساطة لـ"ترحيل المعركة"
بعد أكثر من أسبوعين من اللقاءات المكثفة، تكللت الجهود التي عقدتها لجنةٌ عسكرية جنوبية قدمت نفسها بأنها محايدة ومقبولة لدى طرفي الصراع، وبمساعدة سياسيين ووجاهات قبلية، بجمع أبرز القيادات العسكرية الموالية للشرعية مع وفد من "الانتقالي الجنوبي" في مقر القوات السعودية بمدينة البريقة بعدن. وقالت مصادر لـ"العربي الجديد"، إن مقر قيادة التحالف السعودي شهد، مساء الأحد الماضي، ما يشبه النسخة الثالثة من مراسم توقيع اتفاق الرياض المتعثر، ولكن بنكهةٍ عسكرية هذه المرة، حيث سعى القائد السعودي (قائد مقرّ القيادة المحلّية للتحالف السعودي بالبريقة في عدن)، مجاهد العتيبي، لإقناع الطرفين بتنفيذ الشق العسكري من الاتفاق الموقع بين الطرفين، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ووفقاً للمصادر، فإن أهم ما خرجت به جلسة المفاوضات، هو التوافق على عدم تفجير الوضع عسكرياً خلال اليومين المقبلين على الأقل، لكن القيادة السعودية لم تُفلح في إقناع الطرفين بتقديم تنازلات. وعلى الرغم من أن العنوان الأبرز للمعركة استعادة القوات الحكومية لعدن من حلفاء الإمارات، إلا أن الحكومة كان شرطها الأساسي تمكينها من ممارسة مهامها في إدارة شرطة محافظة أبين، أي أن زنجبار الخاضعة حالياً لسيطرة المجلس الانتقالي، ستصبح فعلياً تحت قبضة الحكومة. وفي مقابل موافقة ضمنية من حلفاء الإمارات على طلب الحكومة، إلا أن "الانتقالي" اشترط من جانبه انسحاب القوات المشتركة التابعة للحكومة من شُقرة، وعودة الفصائل الموجودة بداخلها والمتحدرة من المناطق الشمالية، أدراجها إلى مأرب والبيضاء.
ونصّ اتفاق الرياض بالفعل على إعادة تموضع قوات الطرفين وعلى انسحابات متبادلة، حيث كان من المقرر انسحاب القوات التابعة للحكومة والوافدة من محور بيحان والمنطقة العسكرية الثالثة في مأرب، ولكن في مقابل انسحاب أتباع "الانتقالي الجنوبي" من أبين وعدن، وعودتهم إلى معاقلهم الرئيسية في الضالع وردفان وكذلك الساحل الغربي، حيث كانت كتائب عسكرية ترابط ضمن صفوف ألوية "العمالقة" و"الدعم والإسناد" المكلفة بتأمين مديريات تعز والحديدة المطلة على البحر الأحمر.
وأكد مصدر عسكري لـ"العربي الجديد"، أن اللقاء الودي لم يخرج بنتائج جوهرية، وأعاد الأمر إلى العُقدة ذاتها التي توقفت عندها عجلة اتفاق الرياض، وهي الانسحابات المتبادلة وإعادة التموضع، لافتاً إلى أن أي حلحلة لهذا الملف العسكري ستجعل تنفيذ باقي بنود اتفاق الرياض السياسية والأمنية والاقتصادية يجري بسلاسة تامة.
ونظراً لانعدام الثقة بين الطرفين، تخشى الحكومة من أن يؤدي انسحابها من مواقعها في شُقرة إلى توغل قوات "الانتقالي" لاستعادة محافظة شبوة. في المقابل، يخشى الانفصاليون من أن يؤدي انسحابهم من أبين إلى تقدم القوات الحكومية ليس للسيطرة على عاصمة المحافظة، لكن نحو مدينة عدن، المعقل الرئيسي الحالي لحلفاء الإمارات.
وتتمسك الحكومة بمحافظة شبوة النفطية كونها واحدة من أهم معاقلها الرسمية حالياً، خصوصاً في ظلّ التهديد الحوثي لمأرب. وخلال الفترة الماضية، عادت أعلام اليمن الرسمية لترفرف في شوارع شبوة لتحل محل الأعلام التشطيرية التي كان الانفصاليون يرفعونها ويعتبرونها رمزاً لدولتهم المفترضة، حيث ينادون بانفصال جنوب اليمن عن شماله كما كان حاصلاً قبل وحدة العام 1990.
وسعت لجنة التهدئة إلى إقناع الطرفين بعدم التصعيد العسكري والإعلامي ووقف التحشيد والاستفزازات الميدانية، وتهيئة المناخ المناسب للبدء بتنفيذ بنود اتفاق الرياض. وعلى الرغم من التزام شفهي من الطرفين بتلك المحددات، إلا أن الوقائع أظهرت خلاف ذلك.
وغداة اجتماع عدن، تحدثت وسائل إعلام تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، مساء الإثنين الماضي، عن خروقات سريعة وتعزيزات قالت إنها تابعة لحزب الإصلاح وصلت إلى مدينة شقرة في أبين، وزعمت أنها تتضمن رتلاً عسكرياً يتألف من مدرعات وأطقم وسلاح عيار 23. كما أعلنت الوسائل ذاتها، ومنها موقع "عدن 24" المتحدث بلسان "الانتقالي"، أن رئيس فرع الانتقالي في مديرية الروضة بشبوة، عبد السلام حبتور، تعرض للاعتقال من قبل قوات الحكومة، وذلك بالتزامن مع مفاوضات نزع فتيل الحرب. وفي مؤشر على عدم الثقة رغم المفاوضات الجارية، أعلن "الانتقالي" رفع الجاهزية القتالية وتعزيز مواقعه في منطقة المضاربة بمحافظة لحج، تحسباً لأي هجوم قال إن عناصر حزب الإصلاح قد تنفذه نحو عدن.
وبالتزامن مع قرع طبول الحرب هناك في أبين، أعلن "الانتقالي الجنوبي" ما يشبه حالة الطوارئ داخل العاصمة المؤقتة عدن، حيث وسّع من عملية الانتشار في كافة المديريات، وخصوصا الأحياء التي تُعرف بأنها معاقل رئيسية للموالين للحكومة أو يقطنها سكانٌ من محافظة أبين، مسقط رأس الرئيس عبد ربه منصور هادي ووزير الداخلية أحمد الميسري.
وقال باسم عبد الله، وهو من سكان حي السعادة في خور مكسر بعدن، لـ"العربي الجديد"، إن "الانتقالي" لا يزال يخشى وجود "خلايا نائمة" وتكرار سيناريو أغسطس/ آب الماضي عندما انتفض المئات من شباب خور مكسر المؤيدين للحكومة، وهاجموا مواقع الانفصاليين، بهدف الالتحام بالقوات القادمة من أبين حينذاك. وأضاف عبد الله أن "الضربات الإماراتية الغادرة التي قتلت وأصابت أكثر من 300 جندي كانوا على مشارف عدن، اغتالت معنويات المقاومة ضد الانتقالي، وتعرضت منازل منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لمداهمات شبه يومية بحثاً عن خلايا نائمة موالية للشرعية، لكن وتيرة الانتشار تزايدت منذ يوم الجمعة الماضي".
لمن الأفضلية في المعركة المقبلة؟
بدا المجلس الانتقالي الجنوبي أكثر إذعاناً لـ"السلام" وعدم تفجير معركة جديدة، وخلال الأيام الماضية، أعلن بشكل رسمي أن هناك "توجهاً لإجراء مشاورات للجلوس على طاولة الحوار والاتفاق على الشكل النهائي لإنهاء الصراع وحل القضية الجنوبية بين طرفي اتفاق الرياض". وللمرة الأولى، أعلن المجلس ترحيبه بالجنوبيين من كل المكونات السياسية، بمن فيهم "جنوبيو الشرعية"، على أساس أن تصب كافة النقاشات والرؤى في مصلحة "القضية الجنوبية"، أي دعم انفصال جنوب اليمن عن شماله.
ويدرك "الانتقالي الجنوبي" أنه فقد الكثير من عوامل القوة التي كان يمتلكها في معركة أغسطس/ آب الماضي بعدن. فبالإضافة إلى أن أبرز قيادات الصف الأول، والتي أجّجت الصراع الماضي، باتت منفيةً من قبل السعودية في أبوظبي وممنوعةً من العودة إلى عدن، يفتقر الانفصاليون للدعم الإماراتي المطلق الذي كانوا يحصلون عليه سابقاً، خصوصاً في جانب التسليح والعتاد الحديث الذي مكّنهم من قلب الموازين خلال معركة عدن. وكان وزير الداخلية اليمني أحمد الميسري، قد كشف عن ذلك صراحةً في تسجيل في أغسطس الماضي، أقر فيه بالهزيمة وبارك للإمارات وليس للانتقالي، عندما قال إنهم واجهوا 200 مدرعة إماراتية بأسلحة تقليدية عبارة عن بنادق كلاشنكوف.
ولا يتوقف الأمر عند مغادرة القوات الإماراتية عدن في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فقوات المجلس الانتقالي الجنوبي لم تتقاض رواتبها منذ يناير/ كانون الثاني الماضي بعدما قامت الإمارات بقطعها، على اعتبار أن كافة القوات الموالية لها ستنخرط ضمن صفوف الحكومة بناء على اتفاق الرياض، وتتم معاملتها مالياً أسوة بجنود الجيش الوطني، لكن الاتفاق لم ينفذ.
وعلى الرغم من امتلاك "الانتقالي" الحاضنة الشعبية الأوسع في عدن وباقي مدن الجنوب، إلا أن الاحتقان والسخط الشعبي بدأ يتضاعف خلال الأسابيع الماضية منذ سيطرته المطلقة على الأمور وطرد الحكومة، وذلك جرّاء تدهور خدمات الكهرباء بشكل غير مسبوق وتزايد حالات الانفلات الأمني، وهو ما قد يُساهم في خروج الناس ضده للمطالبة بعودة الدولة.
لكن في ميزان التسليح والعنصر البشري، لا يزال "الانتقالي" هو القوة الضاربة بالعدد والسلاح الحديث، خصوصاً بعد سيطرته على كافة المعسكرات الحكومية في أغسطس الماضي، ونهب كافة مخازن الذخيرة، بالإضافة إلى احتفاظه بمدرعاتٍ إماراتية حديثة.
في المقابل، تمكنت القوات المشتركة التابعة للحكومة، والطامحة لاستعادة عدن، من لملمة صفوفها، بعد انتكاسة الصيف الماضي، وجنّدت آلاف العناصر المدربة، كما أن بمقدور الحكومة إمداد عناصرها بمئات الجنود من محافظات مختلفة، سواء من شبوة أو مأرب وسيئون، وهو ما يتخوف منه "الانتقالي"، ويتحدث باستمرار عن توافق حوثي ــ إصلاحي بترك جبهات الشمال للحوثيين وإرسال كتائب نحو الجنوب لاستعادة عدن.
ولكن على الرغم من التعافي النسبي للقوات الحكومية، خصوصاً في الجانب العسكري، إلا أن الصراعات الدائرة في دهاليز الحكومة قد تنعكس سلباً في ميدان المعركة، لا سيما بعد الخلافات العميقة بين رئيس الحكومة معين عبد الملك من جهة، ووزير الداخلية أحمد الميسري، ونائب مدير مكتب رئاسة الجمهورية أحمد العيسي، من جهة أخرى.
كما أن الحكومة تخشى من تكرار الإمارات غاراتها الجوية على قواتها إذا ما تحركت صوب عدن، واستغلال الخطاب الذي دأب عليه "الانتقالي" بأن تلك القوات تضم عناصر من "القاعدة" و"داعش"، حيث أعلنت الإمارات أنه رغم انسحابها من الميدان إلا أنها ستظل مشاركة في الحرب ضد الإرهاب باليمن.
ولمّح عضو قيادة المجلس الانتقالي، سالم ثابت العولقي، إلى ذلك صراحة، وتحدث في تغريدة له، الأسبوع الماضي، عن "تواجد قيادات وعناصر إرهابية في العرقوب وشقرة ضمن صفوف مليشيات حزب الإصلاح التي تسمي نفسها كذباً وزورا بقوات الشرعية"، لافتاً إلى أن ذلك مسألة يدركها الكثيرون، وبإمكان أي جهة التحقق منها بكل بساطة. وقال العولقي إن "العالم الذي تفهم الغارات الإماراتية على هذه المليشيات قبل أشهر، معني بوضع حد لهذا العبث".