انتخابات إسبانيا (1): قوميون وانفصاليون بأجندات متناقضة

28 ابريل 2019
يهدّد "فوكس" باختراق المشهد الإسباني (ماركوس دل مازو/Getty)
+ الخط -
تختلط الحسابات القومية والسياسية والانفصالية، في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي تشهدها إسبانيا، اليوم الأحد، ويختار فيها نحو 36.9 مليون ناخب 350 نائباً عنهم في البرلمان الوطني، وذلك بعد اضطرار رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز، للدعوة إلى الانتخابات في 15 فبراير/ شباط الماضي، إثر تصويت 190 نائباً، وخصوصاً من المحافظين في حزب "الشعب" بزعامة رئيس الوزراء السابق ماريانو راخوي، والانفصاليين الكتالونيين، ضد مشروع ميزانية حكومة الأقلية الاشتراكية المدعومة من حزب اليسار "بوديموس". كما يتم انتخاب 208 سيناتور من أصل 266 في مجلس الشيوخ.

وتكتسي الانتخابات أهمية كبيرة لهذا البلد، وخصوصاً مع تصدّر ما يطلق عليها محلياً "المسألة الكتالونية" الواجهة، بعد الاستفتاء على انفصال كتالونيا الذي جرى في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وما تبعه من تداعيات، وتوسع دعوات الانفصال عن الحكم المركزي في مدريد، ومحاكمة لقادة الإقليم، مع ما أثارته هذه التطورات من استقطاب وتوتر غير مسبوقين، إن في الشارع أو على المستوى السياسي الحزبي لمختلف الأجنحة السياسية. وفتحت الفترة السابقة للانتخابات السجال، مع بروز تهديدات من القوميين والمحافظين بإلغاء فكرة الحكم الذاتي المعمول بها اليوم.

تبدو الساحة الانتخابية الإسبانية أكثر تعددية اليوم مما كانت عليه في العقود الأربعة الماضية، منذ سقوط نظام الديكتاتورية (الفاشية) في إسبانيا، بانتهاء عصر فرانشيسكو فرانكو في 1975، وتبنّي دستور 1978. فلزمن طويل هيمن نظام انتخابي أشبه بنظام تنافسي بين حزبين: الاشتراكي والمحافظين. لكن خلال الأعوام الماضية، بدأت أحزاب أخرى تحقق نتائج أفضل في التنافس على مقاعد البرلمان الـ350. واليوم يبدو أن 5 من هذه الأحزاب، وفقاً لاستطلاعات الرأي الإسبانية، ذاهبة لتجاوز نسبة 10 في المائة، وهو ما يعدّ كسراً للتنافس التقليدي، باقتحام أحزاب الأقاليم للانتخابات الوطنية. وتحضر بشكل رئيس تجربة حزب "فوكس" القومي الشعبوي، بتحقيقه نتائج مفاجئة في انتخابات إقليم الأندلس في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلى جانب أحزاب في إقليمي كتالونيا والباسك. ووفقاً لاستطلاعات الرأي الإسبانية، فلا أحد من معسكري السياسة؛ يساراً ويميناً، سيكون قادراً على الحصول على الأغلبية لتشكيل حكومته منفرداً. وتعطي الاستطلاعات في أغلبها نحو 30 في المائة للحزب الاشتراكي الإسباني، فيما نسبة حزب "الشعب" (اليميني المحافظ)، تدور حول 20 في المائة.

وإذا كان لافتاً في انتخابات 2015 قدرة حزب اليسار "بوديموس"، على اقتحام البرلمان بنحو 20 في المائة، بعد تحالفات وتقاطعات مع قوى وأحزاب أخرى يسارية، وقدرته على حشد واستقطاب الشباب، مستغلاً امتعاضهم من القوى التقليدية، ومن سوء الأوضاع الاقتصادية، وانتشار البطالة، فإن الاستطلاعات السابقة لانتخابات اليوم الأحد تضع "بوديموس" على سكة التراجع إلى نحو 12 في المائة.

ومن الواضح أيضاً أنّ معسكر اليمين التقليدي، وبالأخص حزب "الشعب"، يعاني من تراجع شعبيته ونسب المصوتين له، وهو يواجه منافسة قوية من حزب "المواطنين" (سيودادانوس)، وخصوصاً في كتالونيا، وهو يعارض أي توجه انفصالي، ما يعطيه تقريباً نسبة 15 في المائة من أصوات الناخبين، وفقاً للاستطلاعات الأخيرة.

في المقابل، يبدو أن اليمين الشعبوي ممثلاً بحزب "فوكس"، الأكثر عدائية تجاه المهاجرين وضد السماح بالإجهاض واستقلال الأقاليم، سيتمكّن للمرة الأولى من اقتحام البرلمان الوطني بنسبة قد تتجاوز ما حققه في الأندلس وبحدود 10 في المائة، أسوة بمفاجآت الشعبويين في القارّة الأوروبية.

معظم النقاشات الدائرة اليوم، تحاول تلمّس الاتجاه المستقبلي للحكم في إسبانيا، ولأسباب كثيرة تركز على "الاستقرار السياسي" و"وحدة المملكة". وأغلب التخمينات تطرح ثلاثة سيناريوهات: حكومة اشتراكية بدعم "بوديموس"، مع أحزاب وطنية صغيرة وخصوصاً من أحزاب الأقاليم، وحكومة تحالف معسكر اليمين، وتضم أحزاب المحافظين و"المواطنين" و"فوكس"، والاحتمال الثالث وربما الأضعف، أن يتحالف الحزب الاشتراكي مع حزب "المواطنين".

ويبقى أن السيناريوهين الأولين دونهما عقبات حتى قبل البدء في الخوض بهما. فتحالف الحزب الاشتراكي مع "بوديموس" وأحزاب وطنية صغيرة، تمت تجربته وانهار مع سحب القوميين الكتالونيين دعمهم لرئيس الحكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز، لأسباب تتعلق بالإقليم والمحاكمات الجارية للانفصاليين، وهو ما استغلّه اليمين ليسقط سانشيز. والعودة إلى سيناريو التفاوض مع أحزاب صغيرة كتلك الراغبة بالاستقلال، تعيد الصورة إلى بدايتها مع عجز سانشيز عن المناورة أو تقديم وعود، أصلاً أدت إلى اتهامه بالخيانة وإضعاف سيادة مدريد على الإقليم الكتالوني.

وفي ما يتعلق بإمكانية تشكيل معسكر اليمين أغلبية بائتلاف من ثلاثة أحزاب، فإن ما يعوقه، وفق مراقبين للشأن الانتخابي الإسباني، هو الخوف في صفوف حزب "الشعب" المحافظ وحزب "المواطنين" من الدخول بتحالف مع "فوكس" الشعبوي. وعلى الرغم من ذلك، يبقى هذا التحالف ممكناً، بالعودة إلى تجربة ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ففي الانتخابات الإقليمية في الأندلس، استطاع تحالف حزبي "الشعب" و"المواطنين" كسر احتكار الحزب الاشتراكي بدعم من "فوكس".

وأدى التنافس على الناخبين في معسكر اليمين، إلى ظهور ما يشبه معركة بين المحافظين في "الشعب" و"المواطنين" من جهة، وحزب "فوكس" من جهة أخرى. فالانتقادات القاسية التي وجّهها "فوكس" لرئيس الوزراء السابق المحافظ ماريانو راخوي، ولبقية مرشحي المحافظين، لسماحهم بحصول الاستفتاء على انفصال كتالونيا في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، اضطرت المحافظين إلى إجراء تغييرات على قوائم مرشحيهم، ما يعكس نفوذ وتأثير الشعبويين، وخصوصاً أن "فوكس" بالأصل حزب خرج من رحم حزب "الشعب" المحافظ، ويعرف ما يدور فيه وموازين القوى بين أجنحته.

وأدت تلك الانتقادات إلى تعزيز "جناح مدريد" (أي الأكثر تشدداً من المحافظين)، في عدد من الأقاليم والدوائر الانتخابية، بل وصل الأمر إلى ترشيح البعض، بعد نقلهم من دوائرهم، على قوائم حزب "الشعب" في كتالونيا، على الرغم من أنهم لا يتحدثون لغة الإقليم المرشحين فيه، كما هو الحال مع السياسية المتطرفة كايتانيا ألفاريز، التي اعتُبرت من أشد المدافعين عن وحدة إسبانيا في توليدو، وهو ما أثار استياء ساسة محليين من الحزب في دائرة برشلونة.


وتبدو تصرفات حزب المحافظين، في انجراره وراء الاتهامات بإظهار ساسته ومرشحيه المتشددين، بمثابة محاولة لفرملة تقدّم "فوكس" وقدرته على سحب ناخبي المحافظين في عدد من الدوائر الانتخابية، وخصوصاً في تلك التي تغلي فيها المشاعر القومية، إذ يطالب "فوكس" بـ"حظر الأحزاب الوطنية (الداعية للانفصال) والأحزاب الماركسية"، وبمزيد من تشديد قبضة مركزية مدريد على كل أقاليم إسبانيا.

ما من قضية تشغل الناخبين في كتالونيا أكثر من مستقبل إقليمهم، سواء من يؤيدون الانفصال أو معارضوه، أو من يقفون بين الطرفين. فحتى البطالة، التي تصل نسبتها إلى 15 في المائة، وخصوصاً بين فئة الشباب، لا تعدّ الشاغل للناخبين والمرشحين، مقارنة بالسجال الساخن بين مؤيدي ومعارضي الاستقلال/ الانفصال. فتصويت الكتالونيين يعتبر أمراً حاسماً لاتجاهات الحزب الاشتراكي في مستقبل تشكيل الحكومة الإسبانية.

في المقابل، يؤخذ في الحسبان قدرة حزب محلي على اجتذاب أصوات ناخبي الإقليم بنحو كبير. فحزب "اليسار الجمهوري لكتالونيا"، المدافع عن استقلال الإقليم، يعتبر انتخابات اليوم بمثابة "استفتاء على الاختيار بين الاضطهاد والديمقراطية". ويتحدى الحزب مدريد باختياره مرشحه الأبرز، نائب رئيس حكومة إقليم كتالونيا سابقاً، أوريول جونكويراس، المعتقل والمتهم بـ"الخيانة العظمى". ومن المفارقة أن يكون جونكويراس منافساً لقائمة مرشحي الحزب الاشتراكي في الإقليم، إذ يقدّم الأخير نفسه ضامناً لعدم تفوق اليمين المتشدد وتسلطه من مدريد.

وبالإضافة إلى مرشحي "الجمهوري"، يحضر ائتلاف اليسار "معاً نستطيع" (المكوّن من بوديموس واليسار الموحد والخضر)، الذي حقق من خلال ائتلاف أحزاب معسكر اليسار الكتالوني نتائج جيدة في انتخابات 2015 و2016، وإن كان لا يُتوقع له النتائج نفسها اليوم، مع ترك بعض أطرافه لتحالفهم بسبب ما يقولون عنه "إضعاف لقضية الاستقلال وعدم جعلها أولوية". وتهيمن على التحالف خلافات الداخلية، مع عجزه عن الحفاظ على تحالفه في كل الأقاليم، ما قد يؤثر عليه في الانتخابات الحالية ويجعله وفقاً للاستطلاعات يخسر أصواتاً للحزب الاشتراكي، وإن كان في استطلاعات أخرى يبدو متفوقاً على حزب "فوكس".

ويشير متابعون للانتخابات الإسبانية، إلى أن "بوديموس" يبدو اليوم أضعف من السنوات السابقة، وخصوصاً مع خروج أحد شخصياته المؤثرة في مدريد، الذي يُعتبر الرجل الثاني في الحزب إنيغو أريخون، للعمل مع عمدة مدريد المنتهية ولايتها، مانويلا كارمينا. ويُتوقع أن يكون لهذه الانقسامات تأثيرات سلبية حتى على مرشحي الحزب في الأندلس، إذ لم يتم اختيار مرشحين من الزعامات المحلية لانتخابات اليوم، بل جرى اختيارهم مركزياً، ما أثار امتعاضاً محلياً بين النشطاء اليساريين المحليين.

وعلى الرغم من التراجع الذي يقلق معسكر اليسار والاشتراكيين، يبقى أن متغيرات السنوات الماضية، وإعادة طرح قضية الدستور للمراجعة، باتت مسائل محلية إقليمية، سياسية واجتماعية، تفرض نفسها على أجندة السياسيين والأحزاب في عموم إسبانيا. ويشعر اليسار الإسباني اليوم بأنه مضطر للدخول في تحالفات من نوع ما أمام تقدّم اليمين القومي المتطرف، وخصوصاً مع تراجع اهتمام الشباب في المشاركة في هذه الانتخابات. وحتى لو نجح الحزب الاشتراكي في انتخابات اليوم، سيظل السؤال الذي يتردد: كيف ستتصرف الأحزاب القومية المتشددة لمواجهة استمرار مطالب الكتالونيين بالانفصال؟ وليس غريباً اليوم أمام تلك التحديات، أن يستعيد البعض في الشارع مخاوفه من أن تؤدي التشنجات والاصطفافات الإقليمية والقومية إلى أزمات تضاف إلى قائمة تحديات يفرضها تقدّم معسكر الشعبويين، على أبواب فرصة أمامه للدخول إلى البرلمان الأوروبي في انتخابات تجري بين 23 مايو/ أيار المقبل و26 منه.

المساهمون