نهاية جولة حرب ناغورني قره باغ... اشتباكات برسائل تركية-روسية

06 ابريل 2016
استبعاد ارتفاع حدة الاشتباكات بين الطرفين (إعداد العربي الجديد)
+ الخط -
كانت اشتباكات الأيام الأربعة التي شهدها إقليم ناغورني قره باغ، المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، والتي انتهت نظرياً أمس الثلاثاء، الأكبر منذ الهدنة بين الطرفين في العام 1994، وهي أدت إلى سقوط عشرات القتلى، فيما تبدو هذه الاشتباكات انعكاساً للتوتر الروسي التركي القائم. وقد نجحت الوساطات الإقليمية، فأعلنت أطراف النزاع عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بعد أن استمر منذ يوم السبت الماضي وأسفر عن سقوط أكثر من 40 قتيلاً، بحسب بيانات الأمم المتحدة. وقال ناطق باسم وزارة دفاع "جمهورية قره باغ" غير المعترف بها للصحافيين: "تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار عند منتصف اليوم (أمس)، نظراً لإجراء عملية المفاوضات"، وهو ما أكدته بدورها وزارة الدفاع الأذربية، بينما أشارت أرمينيا إلى أنه يجري إعداد اتفاق الهدنة. وأشادت موسكو وعلى لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، بجهود أطراف النزاع الرامية إلى منع تجدد القتال. اتفاق لم يكن بعيداً عن أجواء الاجتماع الذي استضافته فيينا أمس الثلاثاء لمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والمكلفة إيجاد حل لهذا النزاع. وارتفعت حصيلة القتلى إلى أكثر من أربعين قتيلاً منذ استئناف المعارك مساء الجمعة مع إعلان وزارة الدفاع الأذرية أمس أن 16 من جنودها قُتلوا في القتال، فيما ارتفعت حصيلة الجرحى إلى أكثر من مئتي عسكري ومدني.

ولم تتوقف المناوشات في هذا الجزء المتوتر من القوقاز منذ اندلاعها عام 1988، إذ يبقى إقليم ناغورني قره باغ الأذري إحدى حلقات الصراعات المجمّدة، التي خلفتها تجزئة تركة الاتحاد السوفييتي، والقابلة للاشتعال مرة أخرى في أي وقت، تماماً مثل جمهورية ترانسنيستريا غير المعترف بها على الحدود المولدافية، أو إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيين اللذين غزاهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2008، كما غزا شبه جزيرة القرم وإقليمي لوغانسك ودونيتسك الأوكرانيين قبل عامين.

منذ ضمه وأراضي أخرى في القوقاز إلى الإمبراطورية الروسية بعد هزيمة الإمبراطورية الفارسية في الحرب الروسية الفارسية، تمتع إقليم ناغورني قره باغ ذي الغالبية السكانية الأرمينية، في العهد السوفييتي، بحكم ذاتي منذ العام 1923 لكن في إطار الجمهورية الأذرية السوفييتية، ليخمد الصراع فيه عدة عقود حتى نهاية الثمانينيات مع بداية تفكك الاتحاد السوفييتي، حين نظّم النواب الأرمن عن الإقليم في مجلس السوفييت بالتعاون مع نظرائهم عن أرمينيا، تظاهرات واسعة في العاصمة الأرمينية يريفان ومدن الإقليم، تطالب بإنهاء سيطرة جمهورية أذربيجان السوفييتية عليه، وضمه إلى جمهورية أرمينيا السوفييتية، مما أشعل أزمة كبيرة أدت إلى استقالة رئيسي الجمهوريتين السوفييتيتين ورفض طلب نواب الإقليم الانضمام إلى أرمينيا، تلتها اشتباكات بين الأذريين والأرمن، انتهت بترحيل الأذريين القاطنين في أرمينيا السوفييتية وكذلك الأرمن في الأراضي الأذرية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أجري في الإقليم استفتاء على الاستقلال قاطعه الأذريون، تم على أساسه إعلان جمهورية ناغورني قره باغ في يناير/كانون الثاني 1992، الأمر الذي لم يعترف به أحد حتى جمهورية أرمينيا، تلاه هجوم للوحدات الأرمينية مدعومة من الروس على الإقليم، انتهى بالسيطرة عليه وعلى سبع مناطق أذرية أخرى خارج حدوده، وتم خلاله ارتكاب عدة مجازر بحق الأذريين في الإقليم أهمها مجزرة "كوجالي" التي راح ضحيتها المئات من المدنيين، وكذلك تم تهجير الأذريين تماماً من الإقليم.

وصدر عن مجلس الأمن ثلاثة قرارات طالبت يريفان بالانسحاب من الإقليم والأراضي الأذرية الاخرى التي سيطرت عليها، ليتم إعلان الهدنة في ناغورني قره باغ في العام 1994 برعاية مجموعة مينسك بقيادة كل من فرنسا والولايات المتحدة وروسيا. ولكن الخروقات لم تتوقف من حينها، كما لم يتم تسجيل أي تقدّم في المحادثات المتكررة بين باكو ويريفان.


بقيت الحرب في الإقليم عقدة جيوسياسية في القوقاز، إذ استمرت موسكو بدعمها غير المحدود لأرمينيا التي تراها وإقليم ناغورني قره باغ حائط الصد الوحيد في وجه الطموحات التركية بمد نفوذها إلى الجمهوريات التركية التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي مثل كازاخستان وأذربيجان وقيرغيزيستان وتركمانستان وصولاً إلى تركستان الشرقية التي تقطنها أغلبية الأويغور التركية في الصين، وذلك بينما استمرت أنقرة في دعمها القوي لجمهورية أذربيجان التي تسيطر عليها عائلة علييف، سواء في قسمها الشرقي أو الغربي ممثلاً بإقليم ناهجيفان.
وبلغ الصراع الروسي التركي ذروته عندما حاولت القوات الأرمينية في مايو/أيار 1992 السيطرة على إقليم ناهجيفان، فهددت حينها رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر بإعلان الحرب على أرمينيا في حال حاولت التقدّم في أراضي ناهجيفان، وتم حشد الآلاف من عناصر الجيش التركي على الحدود التركية الشرقية، لترد موسكو بأن أي تدخّل من طرف ثالث في الحرب سيؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.

وبعد اكتشاف الاحتياطات الأذرية الكبيرة من الغاز في بحر قزوين، تحوّلت باكو إلى محط اهتمام غربي أميركي كبير، أملاً في تخليص أوروبا من الاعتماد على الغاز الروسي، وباتت أذربيجان أحد خطوط المواجهة بين موسكو وحلف شمال الأطلسي، الذي لا زال متردداً في التصعيد وقبول انضمام أذربيجان إلى الحلف، وذلك بينما تجري أعمال إنشاء أنبوب الغاز بين الآبار الأذرية وتركيا عبر جورجيا، والتي من المفترض أن تمتد إلى أوروبا في وقت لاحق.
ولا يمكن إبعاد الاشتباكات الأخيرة في ناغورني قره باغ، عن التوتر الروسي التركي في سورية، والذي اندلع إثر تدخّل موسكو لدعم النظام السوري، وإسقاط سلاح الجو التركي طائرة روسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وبينما تقوم روسيا بتقديم دعم واضح لعدو أنقرة الأول أي حزب "العمال الكردستاني" وجناحه السوري حزب "الاتحاد الديمقراطي"، اندلعت الاشتباكات الأخيرة في الإقليم بعد أسبوع من الزيارة التي قام بها الرئيس الأذري حيدر علييف إلى تركيا، والتقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكذلك بعد ساعات من عودة علييف من واشنطن إثر المشاركة في قمة الأمن النووي التي أكد خلالها ضرورة الانسحاب الأرميني من الأراضي الأذرية، والتقى على هامشها وزير الخارجية الأميركي جون كيري.
وعلى الرغم من تهديد الطرفين الأذري والأرميني بتحويل هذه الاشتباكات إلى حرب حقيقية، إلا أن ذلك يبدو مستبعداً في ظل الظروف الحالية، كما يؤكد مدير مركز الأبحاث الاستراتيجية والعلاقات الدولية القوقازية الباحث الأذري أراز أسلانلي، قائلاً إن "احتمال رفع حدة الاشتباكات بين الطرفين هو أمر ضعيف للغاية، لأن أذربيجان لا تود الخوض في حرب تكون روسيا طرفاً فيها حتى لا تتكرر تجربة جورجيا أو أوكرانيا، وفي المقابل فإن روسيا في ظل أزماتها المتراكمة سواء على المستوى الاقتصادي أو على المستوى السياسي مع الغرب في أوكرانيا أو جورجيا وبعد تورطها في سورية، فإنها لن تسعى إلى فتح جبهة أخرى قد تكلّفها كثيراً".

وبناء على ذلك، لا تبدو الاشتباكات العسكرية في الإقليم سوى جزء من الرسائل الروسية التركية المتبادلة، إذ إن هذه المواجهات تبدو كإحدى أدوات أنقرة لتحسين وضعها التفاوضي مع موسكو، بعد الرسائل الإيجابية التي تبادلها الطرفان أخيراً، والتي بدأتها رئيسة المجلس الاتحادي الروسي فلانتينا ماتفينكو، في 26 من مارس/آذار الماضي، عبر تأكيدها ضرورة "إخراج العلاقات الروسية التركية من الجمود الذي تعيشه"، مطالبة تركيا باتخاذ عدد من الخطوات وتحمل المسؤولية في ما يخص إسقاط الطائرة الروسية، في إشارة إلى مطالبة موسكو لأنقرة بالاعتذار. ثم تلتها تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا، التي أكدت أن الأزمة الروسية التركية هي أزمة مؤقتة، لترد أنقرة بإلقاء القبض على المواطن التركي ألب أرسلان جيلك وإيداعه في السجن، وهو الذي قتل الطيار الروسي أثناء هبوطه بالمظلة بعد إسقاط طائرته فوق جبل التركمان في سورية.