تتعرض حركة النهضة التونسية ورئيسها راشد الغنوشي، منذ أيام، إلى هجوم قوي وقصف متعدد الجهات، في الداخل التونسي ومن خارجه أيضاً، خصوصاً من مواقع معروفة بقربها من الإمارات والسعودية ومصر.
ولا يبدو هذا الهجوم مفاجئاً ولا جديداً، فقد تعرضت "النهضة" لمثله كلما ضعفت الجبهة الداخلية ومرت تونس بأزمة من أي نوع، وظن معارضوها أن الفرصة في ضرب التجربة الديمقراطية التونسية متاحة وممكنة، وأن هناك شرخاً يمكن التسلل منه. ولهذا الهجوم سياقات متعددة ومختلفة وأسباب كثيرة، أغلبها موضوعي ومفهوم وقابل للتفكيك، يتنوع بحسب طبيعة المهاجم وأهدافه وطبيعة خلافه أو تنافسه مع حركة النهضة، لكنه يستغل، كل مرة، التناقضات الداخلية ذاتها، ويعبر من هشاشة الوضع السياسي وفتور العلاقات بين أطراف السلطة، أحزاباً ومؤسسات.
ولهذا الهجوم بالذات أسباب متعددة، يمكن فهم سياقها الأخير المستجد من تداعيات الحرب الليبية، وخسارات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المتلاحقة والمهمة، وبالتالي المعسكر الذي يمثّله. ويستدل على ذلك، من خلال موقف برز، الأربعاء الماضي، بقرار النائب عن الحزب الدستوري الحر مجدي بوذينة الإضراب عن الطعام. وقال بوذينة، في تصريح إذاعي، إن "ما قام به الغنوشي عند اتصاله برئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج، بعد سيطرة قواته المدعومة من تركيا على قاعدة الوطية الجوية، خيانة وزج بتونس في صراع دولي، لا بد أن تتم مساءلته حوله وحول تواصل تحركاته المشبوهة".
ويأتي صدى هذا الهجوم من ليبيا، حيث نقلت قناة "ليبيا الحدث"، تصريحاً لرئيس لجنة الدفاع والأمن في البرلمان في طبرق طلال ميهوب، استنكر فيه "الصمت الدولي"، و"موقف تونس"، التي اعتبرها "بوابة عبور للمرتزقة والمليشيات من تركيا إلى ليبيا"، مضيفاً أن "العيون تراقب ما تفعله تونس برئاسة قيس سعيد". كما دانت سبعة أحزاب تونسيّة، في بيان مشترك، الاتصال الهاتفي، الذّي أجراه رئيس مجلس نوّاب الشعب (البرلمان) راشد الغنوشي مع السراج الثلاثاء الماضي. واعتبرت هذه الأحزاب، وهي التيّار الشعبي، والعمّال، وحركة تونس إلى الأمام، والاشتراكي، والوطني الديمقراطي الاشتراكي، والقطب، وحركة البعث، الاتصال الهاتفي "تجاوزاً لمؤسّسات الدولة وتوريطاً لها في النزاع الليبي إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها". وطالبت "رئيس الجمهوريّة بالرد على ما ورد من مواقف من قبل الغنوشي".
في الظاهر تلتقي هذه المواقف كلّها في شجب الاتصال مع السراج، وتطالب سعيد بالتدخل، في حين أن الرئيس التونسي نفسه يتصل بالسراج ولا يعترف إلا بحكومة الوفاق، ولذلك اعتبر المكلف بالإعلام في "النهضة" خليل البرعومي أن الحركة ملتزمة بالموقف الرسمي للدولة التونسية في ما يتعلق بالملف الليبي، مشيراً إلى أن بيانات رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية تؤكّد دعم تونس للشرعية الدولية، ممثلة في حكومة الوفاق الوطني، بقيادة فائز السراج.
لكن هذه المواقف التي تلتقي في إدانة المكالمة، لا تلتقي بالضرورة في نفس الأهداف مع الحزب الدستوري الحر. فهذه الأحزاب، على ضعف حضورها النيابي وتمثيلها الشعبي المحدود جداً بحكم ما أثبتته الانتخابات، ينتمي أغلبها للجبهة الشعبية اليسارية سابقاً، وأغلبها مكونات يسارية ماركسية وقومية، يدافع بعضها عن النظام السوري والنظام الليبي السابق وكل من يمثله، وبينها في الوقت ذاته خلافات فكرية وسياسية كبيرة، لكنها تلتقي جميعها في خلافها مع "النهضة" والإسلام السياسي. وجاء التحاقها بإدانة الغنوشي و"النهضة" هذه المرة متأخراً جداً عن موقف رئيسة "الدستوري الحر" عبير موسي. ويبدو أن هذه الأحزاب تحاول، من ناحية، استغلال الفرصة لضرب خصمها التقليدي "النهضة"، ومن جهة ثانية منافسة موسي على المعارضة، خصوصاً بعد أن تراجع دور الأحزاب اليسارية، المعارض التقليدي قبل الثورة وبعدها.
لكن دور "الدستوري الحر" يبدو مختلفاً من حيث المنهج والأهداف والأسلوب. فقد وصل إلى البرلمان راكباً موجة معارضة حركة النهضة والإسلام السياسي، وبدأت رئيسته، عبير موسي، منذ أول يوم في عمل مجلس النواب بمعارضة الغنوشي، وتعطيل الجلسة الأولى في تاريخ هذا البرلمان، ما يشير إلى أن برنامجها الأساسي هو منع الغنوشي من إحراز أي تقدم خلال وجوده على رأس البرلمان، وليس أدل على ذلك من اعتصاماتها المتعددة وتعطيلها المتواصل للأعمال في اللجان أو الجلسات العامة.
وتستغل موسي بذكاء شديد تناقضات الائتلاف الحكومي وضعف تحالفه الإجباري، وتهاجم "النهضة" والغنوشي، بينما تقف بقية أحزاب الائتلاف متفرجة، وهي لا تعي ربما أن المعارضة بصدد حرمانها من مكسب سياسي وشعبي كبير، عبر إلهائها بهذه الملفات ومحو نجاح كبير للحكومة في مقاومة أزمة كورونا. وتلتقي أهداف موسي، التي لا تخفي عداءها للثورة، مع أهداف المعسكر الإماراتي. وأوضح النائب والناطق الرسمي باسم حركة "النهضة" عماد الخميري، في تصريح إلى إذاعة "شمس"، الأربعاء الماضي، أنه يوجد التقاء موضوعي بين أقلام داخل تونس "تعودت على الأكاذيب" وجهات خارجية تعتمد الذكاء الافتراضي عبر شبكات ومحطات إعلامية معروفة بهدف استهداف التجربة الديمقراطية التونسية. واعتبر أن ما تقوم به موسي هو من قبيل "الشو السياسي"، مؤكداً أنه "ليس لديها أي دور إلا استهداف العمل النيابي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي بسبب العداوة الأيديولوجية".
وقال رئيس الكتلة البرلمانية في "النهضة" نور الدين البحيري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "الإمارات تسعى إلى إشعال الحروب في دول، كليبيا واليمن وتونس"، موضحاً أن "حملات التشويه الأخيرة، التي استهدفت حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، تهدف إلى ضرب صورة البلد وتدمير التجربة التونسية، مثلما يحصل في ليبيا، باستهداف أسس الدولة الشرعية". ولفت إلى أن "حملات التشويه التي تصاعدت وتيرتها في الفترة الأخيرة، والتي تستهدف النهضة والغنوشي ترجع إلى كون الحركة صمام أمان للتحول الديمقراطي الذي تعيشه تونس، والضمانة لاستمرار الديمقراطية واحترام السيادة الوطنية. لكن المستهدف الحقيقي من وراء كل ذلك هو ثورة تونس والتجربة الديمقراطية".
وأكد أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، في مداخلة على قناة "حنبعل"، أن الأمين العام لحزب مشروع تونس محسن مرزوق، ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، يستقويان بمحور مصري إماراتي سعودي من أجل غلق الملف الديمقراطي في البلاد. وأشار إلى أن "مرزوق وموسي لا يتحدثان بشكل واضح عن ضرب التجربة الديمقراطية، بل يبرران موقفهما بالتدخل التركي والإخواني". وأوضح أنه "يمكن تفسير ما يحدث من ذلك المنطلق، وعلينا حماية المسار الديمقراطي من الاختراقات". وقال "هناك تحالف يبدأ من حفتر وصولاً إلى موسي ومرزوق".
وللهجوم على "النهضة" والغنوشي أوجه عديدة، إذ التقت، في الأيام الأخيرة، اتهامات شخصية له بمطالب بجمهورية ثالثة وتغيير نظام الحكم وبحوار وطني جديد مع دعوات لمساءلته. وقد جاءت هذه الاتهامات من أحزاب إما فشلت في الانتخابات أو من بقايا "نداء تونس" من معارضي التوافق مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، أو من أحزاب يسارية، هي تقليدياً ضد كل من يمثل الإسلام السياسي. وتعمل هذه الأحزاب على استغلال الخلافات داخل الائتلاف الحاكم، والتباعد الواضح بين الغنوشي وسعيد، واختلاف أهداف الرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، والنزاع حول الصلاحيات. كما أنها تلعب أيضاً على خلافات داخلية في "النهضة" بسبب مؤتمرها المقبل، وملف خلافة الغنوشي. ويبدو أنها تنجح في ذلك نسبياً حتى الآن، برغم محدودية هذه الهجمات، التي لا يمكن أن تقود إلا إلى مكاسب صوتية وسياسية محدودة بسبب عدم اعتمادها على انحرافات كبيرة أو امتلاكها لملفات واضحة حتى الآن.
لكن بعض المراقبين يحذرون من تصعيد، مدفوع من الخارج، عبر تحريك بعض الجهات داخلياً وبث الفوضى، أو حتى الوصول إلى تأليب الوضع أمنياً. وقد برزت، في الأيام الأخيرة، ظاهرة غريبة، تتمثل في سلسلة حرائق متعددة في أكثر من منطقة، ما أثار الأسئلة حول أهدافها الحقيقية، ومن يقف وراءها. إلا أن هذا الوضع المتوتر لا يعفي "النهضة" نفسها من مسؤوليتها. فقد ساهمت الأخطاء المتتالية في إعادة إحياء المناخ المناوئ لها، بدءا من حملتها الانتخابية وما تلاها من غرور حذرت منه قيادات نهضوية، وأخطاء في تشكيل الحكومة الأولى، التي عهدت بها للحبيب الجملي وفشلت فيها. كما أنها ترددت في تحديد تحالفاتها السياسية الجديدة، بعد الفراغ الذي خلفه سقوط التوافق مع "نداء تونس"، وما حدث بعدها من فتح جبهات خلافات كثيرة، في الوقت ذاته، مع الحكومة ورئيسها إلياس الفخفاخ أثناء وبعد تشكيل الحكومة، ومع أحزاب الائتلاف الحاكم ومع سعيد، وطبعاً مع معارضيها، وعدم قدرتها على تقوية جبهتها الداخلية بعد الاستقالات المتعددة من شخصيات مهمة فيها، وكلها ملفات حدثت في ظرف شهرين فقط.
لكن "النهضة" بدأت تخرج من صدمتها بعد تصاعد هذه الموجة. وأوضح رئيس الحكومة الأسبق ونائب رئيس الحركة علي العريض أن "هذه الحملات مدعومة، ومؤشرات كثيرة تدل على أنها ممولة من أطراف خارجية لم تكفّ عن محاولات إفشال ثورة الحرية والكرامة". وقال "لا بد من إفشال الدعوات للفوضى والانقلاب على المؤسسات. وإذا اضطر الشعب إلى أن يهبّ دفاعاً عن أهداف الثورة وقيمها، وعن الدولة، فلن يتردّد، فلا تجرّبوه ولا تستفزّوه. ما زلنا هنا. وكفّوا عن العمالة والفوضى، والتمتّع بالحرية والتآمر عليها في نفس الوقت".