كان على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عدم الكشف رسمياً عن أي استراتيجية في سورية، لأن خطاب وزير الخارجية ريكس تيلرسون في "معهد هوفر" التابع لجامعة ستانفورد، مساء الأربعاء، كان بمثابة "إفلاس استراتيجي" لأي دور أميركي في سورية، في مقابل التموضع في الشمال على طول الحدود العراقية التركية. كلام تيلرسون طرح تساؤلات أكثر مما قدّم أجوبة، وحمل في طيّاته صدى من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لناحية عدم الرغبة في توسيع التورط العسكري واستمرار الرهان على روسيا لاحتواء إيران، مع حسم خيار التحالف مع الأكراد وعدم وجود رغبة بالانخراط جدياً في مسار سياسي. وأتت كلمة تيلرسون إثر ضغوط من الكونغرس على إدارة ترامب، لتوضيح أبعاد استراتيجيتها السورية، فأصبح هذا الخطاب أول وثيقة رسمية شاملة عن السياسة الأميركية.
ثلاثة عناوين رئيسية في كلمة تيلرسون اختصرت دوافع إدارة ترامب وتبريراتها: ماهية الدور الأميركي، ومقاربة الداخل السوري، وإدارة التوازنات الإقليمية. ربط تيلرسون بين استمرار التواجد الأميركي في سورية، وحماية الأمن الداخلي للولايات المتحدة. وهي معادلة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، التي استندت إلى قتال الإرهابيين في الخارج بدلاً من قتالهم في الداخل. وتمّ تطبيق ذلك عبر غزو أفغانستان عام 2001 الذي أضعف البنية الأساسية لتنظيم "القاعدة"، لكن غزو العراق عام 2003 ساهم بشكل مباشر في إطلاق موجة جديدة من الإرهابيين، الذين تحدّوا مرجعية "القاعدة" المتهاوية. وحتى الآن على الأقل، ليس لتنظيم "داعش" لا الرغبة ولا القدرة على الضرب في الداخل الأميركي، سوى عبر "ذئاب منفردة" تجاوبت مع دعوات التنظيم من دون قدرات لوجستية لتحريكها وتدريبها. وقد حذّر وزير الخارجية من تكرار خطأ الانسحاب الأميركي من العراق، الذي أدى باعتقاده، إلى تحويل "القاعدة" في العراق إلى "داعش"، وهذا تقييم مشكوك فيه لأن "جماعة التوحيد والجهاد" التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي كانت العصب الرئيسي لتأسيس "داعش". وقال تيلرسون إننا "لن نرتكب الخطأ نفسه كما في العام 2011 عندما سمح الخروج المبكر من العراق للقاعدة أن تبقى هناك وتنتشر لتصبح تنظيم داعش".
كما ربط تيلرسون مسألة "إنهاء المهمة الأميركية في سورية" بلائحة طويلة من الأهداف، هي "هزيمة تنظيمي داعش والقاعدة، وحلّ النزاع السوري عبر الأمم المتحدة لعبور سورية إلى مرحلة ما بعد بشار الأسد، والعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين، وإخلاء سورية من أسلحة الدمار الشامل".
ولفت إلى أن "التواجد العسكري ـ المدني سيقود مبادرات لتحقيق الاستقرار، مع تركيز متجدد على الحل السلمي للنزاع بين المعارضة والنظام، وتفادي مساحات غير خاضعة للحكم تكون أرضية خصبة لإعادة بروز الإرهابيين ومنع نظام بشار الأسد من مواصلة معاملته الوحشية ضد شعبه". صحيح أن التوافقات الأميركية ـ السورية نجحت في خفض التوتر في أنحاء سورية، لكنها لم تحم المدنيين.
وأضاف تيلرسون أن "الانسحاب التام للأميركيين في هذه المرحلة سيساعد الأسد على مواصلة تعذيب شعبه"، مشيراً إلى أن "قاتل شعبه لا يمكن الوثوق به للتوصل إلى استقرار طويل الأمد".
بالنسبة إلى الداخل السوري، ليس واضحاً بعد ما هي طبيعة السياسة الأميركية، وقد وصف تيلرسون الأسد بأشد التعابير، لكن من دون رؤية لكيفية التعامل مع استمرار وجوده في الحكم. لم يذكر وزير الخارجية الأميركي أن على الأسد التنحّي كشرط مسبق لبداية أو نهاية التفاوض، بل اكتفى بالتلميح إلى أن "المرحلة الانتقالية لا يمكنها أن تكون ناجحة من دون رحيله". ودعا المعارضة السورية إلى "الصبر في هذه المسألة التي ستحصل من خلال عملية تدريجية للإصلاح الدستوري". وهناك على ما يبدو مسعى أميركي لتجاهل مسار سوتشي مقابل دعوة موسكو للضغط على الأسد للمشاركة الجدية في مسار جنيف، وهو تكتيك أثبت فشله في المرحلة الماضية.
أبعد من ذلك، الضغوط الأميركية ستكون في عدم توفير أي دعم مالي لجهود إعادة الإعمار في مناطق تحت سيطرة الأسد وعدم تشجيع أي علاقات اقتصادية بين نظام الأسد وأي بلد آخر. وهي أدوات دبلوماسية غير فعّالة أيضاً في التأثير على النظام. وفي ظل وضع عودة اللاجئين السوريين ضمن الأولويات الأميركية، ليس واضحاً كيف يمكن أن يتم هذا الأمر من دون نوع من التواصل بين النظام السوري ودول الجوار. وهو ما ظهر في تركيا والأردن ولبنان.
ترداد تيلرسون أكثر من مرة عبارة "سورية مستقرة وموحدة ومستقلة"، من دون الاشارة إلى تعبير "وحدة الأراضي السورية"، فيه محاولة لاستيعاب انتقادات الدعم الأميركي للأكراد. فقد تحدث وزير الخارجية عن دور أميركي في المرحلة المقبلة ممهّد لإنتاج "سلطات محلية مدنية شرعية" في "المناطق المحررة". ولفت إلى أن "هذه الإجراءات لا تعني مساراً مفتوح الأمد لبناء الأمم وإعادة الإعمار". والمقاربة في الملف الكردي كانت جديدة من ناحية الدعوة للمرة الأولى إلى انخراط "قوات سورية الديمقراطية" بطريقة ما في مسار جنيف، وأن "على هذه القوات احترام التعددية السورية وأن لا تشكّل أي تهديد لجيران سورية".
تحدث تيلرسون بشكل سريع عن "ضرورة استمرار الشراكة مع أنقرة في سورية بإدلب ومعالجة قلق تركيا من إرهابيي حزب العمال الكردستاني في أماكن أخرى". غير أن الأمر لم يُستتبع لخريطة طريق للخلاف بين البلدين حول مدى علاقة حزب العمال الكردستاني بـ"قوات سورية الديمقراطية"، ولا التطرّق إلى فكرة تشكيل قوة من 30 ألف جندي من حرس الحدود، التي أغضبت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أعلن أنه "سيعمل على خنق هذه الوحدة العسكرية قبل ولادتها".
غير أن تيلرسون أبلغ الصحافيين على متن طائرته، بأنه "تمّ توصيف هذه الفكرة بشكل خاطئ من قبل بعض المسؤولين الأميركيين، وأنه ليس هناك نية لتشكيل قوة حرس حدود، وأنه التقى وزير الخارجية التركي (مولود جاويش أوغلو) في فانكوفر يوم الثلاثاء الماضي، لإيضاح هذه القضية".
كما خرجت مؤشرات من واشنطن في الأيام الأخيرة بأنها "لن تتدخل عسكرياً لحماية القوات الكردية في عفرين"، في محاولة للتخفيف من الاحتقان التركي والتمهيد لتجديد التفاهمات مع موسكو في الشمال السوري. لكن التجربة أثبتت أن "التباين الاستراتيجي كبير في سورية بين واشنطن وأنقرة، رغم المحاولات الأميركية لاستيعاب الاعتراض التركي بين الحين والآخر".
وأوضح تيلرسون بشكل صريح أن "تحقيق هذه الاستراتيجية في سورية سيستند إلى حدّ كبير إلى الانخراط الدبلوماسي لا المواجهة العسكرية، تحديداً في مسألة ردع النفوذ الإيراني". كما اعتبر أن "تقليص وطرد النفوذ الإيراني يعتمد على وجود سورية ديمقراطية"، مشيراً إلى أن "وجود حكومة مركزية جديدة لا تخضع لنظام الأسد سيكون له شرعية لتفرض سلطتها على كل الأراضي السورية". ما يعني أن واشنطن لن تسمح بتسليم الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد سوى إلى حكومة مركزية من دون الأسد. ووعد وزيرالخارجية الأميركي بتقديم مزيد من الدعم لجولة محادثات السلام الجديدة حول سورية في فيينا برعاية الأمم المتحدة، موضحاً أن "رحيل الأسد من منصبه لن يكون إلا من خلال عملية تدريجية وانتخابات حرة ونزيهة وتغيير للدستور".
مع العلم أن عدد القوات الأميركية في سورية، بلغ نحو ألفي جندي، كما أن طائراتها تجوب شرق البلاد مستهدفة عناصر تنظيم "داعش".