وتحاول السلطات التونسية تجنب اللجوء إلى فرض حظر التجوال ليلاً تجنباً لانعكاسات ذلك على الصعيدين الاقتصادي والأمني من جهة ولإظهار تماسك سياسي وحكومي من جهة ثانية. ويبدو أن قوات الشرطة والدرك، التي عززت في ليلة الاحتجاجات الثانية (ليل الثلاثاء الأربعاء) حضورها، قد استطاعت أن تحد من "التحركات الليلية"، لا سيما بعد أن تعززت بوحدات الجيش التي انتشرت في عديد المناطق من مختلف المحافظات لحماية المقرات السيادية والمنشآت الحساسة والمرافق العمومية والقيام بدوريات مشتركة مع الوحدات الأمنية.
كما سجلت الليلة الثانية من هذه التحركات الليلية دخول مواطنين على الخط، قاموا بإسناد الشرطة لمنع اقتحام مؤسسات تجارية وخدماتية في أحيائهم، في إشارة مهمة إلى أن التونسيين يرفضون تشويه احتجاجاتهم المشروعة على الأوضاع الاقتصادية بسبب غلاء الأسعار وعلى غياب التنمية في جهات مهمشة ومنسية.
وأعلن المتحدث باسم وزارة الداخلية، خليفة الشيباني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إيقاف 237 شخصاً ليلة أول أمس تورطوا في أعمال التخريب والشغب والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة، فيما تم القبض أمس الأربعاء على عنصرين تكفيريين مصنفين خطيرين، واحدهما محل إقامة جبرية بصدد حرق مستودع بلدية نفزة وسيارتين أمنيتين، على حد قوله. كما أشار إلى أن الإصابات في صفوف العناصر الأمنية بلغت 58 إصابة بين شرطة وحرس، كما تضررت 57 سيارة إدارية تابعة للوحدات الأمنية بعد رشقها بالحجارة وسجل احتراق سيارتين تماماً.
وأشار المتحدث الى أنّ ما سماه "العصابات الإجرامية التي تظهر ليلاً للتخريب والسرقة لا علاقة بها بالاحتجاجات المطالبة بالتشغيل والتنمية، موضحاً أن هؤلاء يتوزعون في شكل مجموعات ولديهم أدوار محددة يقومون بها، فيستهدفون أعوان الأمن ثم تتجه مجموعات أخرى إلى المستودعات البلدية والتي تحتوي على المحجوزات لنهبها وكذلك البنوك والصرافات الآلية لتخريبها وسرقتها، وتم القبض على شباب أعمارهم بين 15 و18 سنة، متسائلا عن خلفية ذلك".
هذا السيناريو الليلي، لا يبدو غريباً على التونسيين، إذ يتكرر منذ سنوات مع كل احتجاج، إذ يعمد عناصر مجهولون إلى اقتحام مراكز الشرطة والقباضات المالية (المكاتب التي تدفع فيها الضرائب وتسجل فيها العقود، بالإضافة إلى أنها تتولى توزيع السجائر لأن التبغ في تونس من احتكار الدولة) والبنوك ومستودعات البلديات، بنفس الأسلوب تقريباً وفي كل المحافظات، ولعل آخرها ما حدث في تطاوين في اعتصام الكامور، لكن المواطنين هناك تجندوا للدفاع عن مدينتهم وعن شرعية احتجاجهم بالأخص، وقبضوا على هذه العناصر التي جاءت من خارج المدينة، بما يقود إلى الاعتقاد أان جهة ما تقف وراء هذه العمليات.
وفي السياق، يذهب رئيس كتلة الجبهة الشعبية اليسارية، أحمد الصديق، والذي تساند كتلته الاحتجاجات المطلبية بقوة، إلى التأكيد أن "أعمال النهب والسلب والتخريب تُغذيها وتقف وراءها لوبيات معينة يسعدها إنهيار الوضع بالبلاد وذلك من أجل تصفيات حسابات لها مع وزارة الداخلية"، بحسب تصريحه لإذاعة شمس.
لكن هذه الاحتجاجات الليلية، وإن كان يسود إجماع على أنها تلوث مشروعية الغضب الشعبي، ليست معزولة عن واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي معلوم في تونس، أثبت فشله في التعاطي مع مطالب الناس.
وفي السياق، يقول عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الفئة التي خرجت للاحتجاج "تمثل جزءاً بسيطاً من الشعب التونسي، وهي الفئة الأكثر إقصاء وتهميشاً بمناطق حي التضامن والانطلاقة في العاصمة، وسيدي بوزيد والقصرين. وهي تعتبر خارج منظومة الدولة وتنتشر في أحزمة الفقر بالعاصمة والجهات المحرومة". كما يشير إلى أن "الدولة تعسفت على هذه الفئات وظلمتها ولم تقدم لها شيئاً، وهي اليوم تجني نتائج سياستها الفاشلة مع هذه الفئات التي ظلت خارج الإحصائيات الرسمية وبرامج الأحزاب والدولة".
ووفقاً لبن عمر فإن "هؤلاء الشباب تركوا أيضاً فريسة للإجرام والفقر والتهميش وكانوا خارج المنظومة التعليمية وبالتالي مورس عليهم العنف، وهو ما يفسر غضبهم".
ويقود هذا التفسير إلى أنه حتى وإن وجدت عصابات مهربين ومجرمين تحرك هذه المجموعات الشبابية، فإنها استثمرت في فقر هذه الجهات، بعد أن فشلت مؤسسات الدولة في تأطير هؤلاء وتقديم بدائل اقتصادية واجتماعية لهم.
وبيّنت دراسات تونسية عديدة أن الإرهاب كما التهريب يستثمر في الأحياء الفقيرة ويستقطب الشباب المهمش ويحاول تقديم بديل اقتصادي له حيث لا بديل رسميا واضحا.
وبمعاينة خريطة التحركات الليلية، في العاصمة وفي الجهات، يتبيّن أن الفقر يميّز هذه المناطق، إذ ترتفع بطالة الشباب خصوصاً، وهو ما أشار إليه المتحدث باسم وزارة الداخلية، خليفة الشيباني عندما أعلن القبض على مراهقين بين 15 و18 سنة، الأمر الذي يحيل أيضاً على مشكلات الانقطاع المبكر عن التعليم في صفوف العائلات الأكثر فقراً.
وتبدي الأوساط السياسية كما النقابية خشيتها من التطورات. وفي السياق، يأتي تنبيه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدّين الطبوبي، إلى "ما لا تحمد عقباه، لأنّ التجربة التونسية الرائدة مستهدفة اليوم من الداخل ومن الخارج". ولهذا السبب أيضاً لم يتردد الطبوبي في تأكيده، خلال لقاء نقابي، استنكار الاتحاد تحويل "الاحتجاجات باسم الديمقراطية تحت جناح الليل والظلام إلى أعمال عنف وخلع لبعض القباضات أو البنوك أو الممتلكات الخاصة"، داعياً إلى عدم "الزج بالبلاد التي تمر اليوم بمنعرج خطير جدا في فوهة بركان". في المقابل، جاءت تأكيداته على دعم الاتحاد لأي تحرك مؤطر ومنظم حزبياً أو اجتماعياً، "لأننا نعيش اليوم في مناخ ديمقراطي يحق فيه للجميع التعبير عن رأيه إعلامياً أو بالاحتجاج المنظم وبالضغط الإيجابي على الحكومات أو على أية أطراف سياسية أو اجتماعية". ولفت إلى "أنّ الاحتجاجات السلمية من أجل غلاء المعيشة أو القضايا التنموية أو الفقر المدقع أو التشغيل قضايا مبدئية وجوهرية بالنسبة إلى الاتحاد الذي يناضل من اجل القضايا العادلة".
وشدد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل على أنه يتعين على الأحزاب تحمّل المسؤولية الكاملة في تعديل المجتمع وفي الإجابة على كلّ القضايا الجوهرية الاجتماعية التي ينادي بها كلّ الطيف السياسي والاجتماعي في البلاد، مشيراً الى أنّ الشعب التونسي يرفض العنف ويجنح الى عقلية الحوار. وحذر الطبوبي من أن ضرب الاستقرار وإسقاط البلاد في العنف يمكن أن يتهدد التجربة. مع العلم أن السيناريو نفسه تقريباً قد تكرر في الأيام الأولى للثورة، لكن التونسيين وقتها، والآن أيضاً، تنبهوا لذلك سريعاً وأسقطوا هذه المخططات من الداخل والخارج، متشبثين بحقهم في الغضب والاحتجاج والتعبير عن رأيهم بحرية دائماً، بوصف هذا الحق أهم مكسب لثورتهم التي تطفئ شمعتها السابعة بعد أيام.
ولذلك يبقى السؤال اليوم حول كيفية الخروج من هذه المآزق كلِّها، اقتصاديا وحكوميا وحزبياً، خصوصاً أنه لا يظهر أن الحكومة لديها حلول لذلك، إذ يصر رئيسها يوسف الشاهد على حتمية المشي على الجمر عاما آخر فوق إصلاحات يعتبر أنها سبيل الخلاص الوحيد، بينما تصر الأحزاب المعارضة على الاستثمار في الأزمة وتدعو إلى اسقاط الموازنة، بما يعني إسقاط الحكومة، قبيل انتخابات بلدية عالية الأهمية في رسم المشهد السياسي الجديد، في حين تغرق أحزاب الائتلاف المفككة في حساباتها الخاصة، مع أن النداء والنهضة تقاربا في المواقف خلال الاحتجاجات بعد نهاية الأسبوع الصعبة التي ميزها فك الارتباك بينهما، ولكنها هدنة مؤقتة فرضتها الأحداث، في انتظار عودة السجال من جديد.
وفي السياق، نبهت حركة النهضة من خطورة ما قالت إن بعض الأطراف السياسية تقوم به لجهة توفير الغطاء السياسي الذي يبرّر أعمال العنف والتخريب، بل ويشجع على القيام بها وتوسيعها وتواصلها لحسابات انتخابية مبكرة، وأغراض لا علاقة لها بالاحتجاج الاجتماعي المدني والسلمي، وهو ما يجعل هذه الأطراف أمام مسؤوليتها فيما يمكن أن يحدث من تجاوزات واعتداءات على الأملاك والأرواح.
ودعت حركة النهضة إلى التمييز بين شرعية التحرك الاجتماعي الذي كفله دستور الثورة وتنظمه القوانين، وحق المواطنين في التعبير عن عدم رضاهم على بعض سياسات أو قرارات الحكومة، وبين أعمال الفوضى والتخريب والاعتداء على أملاك التونسيين ونهبها، وتهديد أرواحهم وإرباك حياتهم العادية، وكلها أعمال اختلطت فيها السياسة بالعنف والإجرام، تستدعي تطبيق القانون على مرتكبيها.
كما جددت الحركة دعوة حكومة الوحدة الوطنية لإطلاق حوار وطني اقتصادي واجتماعي على غرار الحوار الوطني السياسي "الذي أنقذ بلادنا وأحلّ سياسة التوافق بدل الإقصاء، تشارك فيه الأحزاب والمنظمات والخبراء ويتم فيه الاستماع لمشاغل المواطنين وتعالج فيه كل القضايا والملفات، ينتهي إلى مزيد ضبط وتدقيق الرؤية الاقتصادية والاجتماعية للحكومة لتسريع الانتقال الاقتصادي وتحقيق التنمية الشاملة والعادلة على قاعدة الحق الدستوري في التمييز الإيجابي للجهات الداخلية".