لم تعد أميركا نفسها بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001. قبل ذلك اليوم كانت معتادة على حماية حلفائها وراء البحار، لكنها وجدت نفسها للمرة الأولى عاجزة عن التصرف حيال هجوم مباغت داخل أراضيها. لا يمكن فهم الأحداث الجارية حالياً في الولايات المتحدة من دون العودة إلى جذور ما حدث في هذا اليوم المشؤوم في التاريخ الأميركي الحديث. وبعدما سعى الرئيس باراك أوباما جاهداً لطيّ صفحة هذه الاعتداءات من الذاكرة الأميركية، يأتي الرئيس الحالي دونالد ترامب لاستكمال هذا المسار عبر محاولة الخروج من أفغانستان لكن أمواج حركة "طالبان" العاتية تعود لتبقي أميركا في الحلقة المفرغة من المستنقع الأفغاني. في اللحظات والأيام والأشهر الأولى من أحداث 11 سبتمبر، كان حاكم البلاد الفعلي نائب الرئيس ديك تشيني الذي يمثل استثناءً في التاريخ الأميركي من ناحية إحكام السيطرة على صلاحيات الرئيس والإجهاز على الدستور الأميركي تحت عنوان الحفاظ على الأمن القومي. فيما كان الرئيس الأسبق جورج بوش الابن جالساً مع تلاميذ القاعة رقم 301 في مدرسة ساراسوتا في ولاية فلوريدا، همس بأذنه كبير موظفي البيت الأبيض أندرو كار: "أميركا تتعرّض للهجوم"، في إشارة إلى استهداف مركز التجارة العالمي في نيويورك، وبعدها كان قرار إبقاء الرئيس في فلوريدا بدلاً من المخاطرة بإعادته إلى واشنطن. لكن مركز صنع القرار حينها كان في مخبأ تحت أرض البيت الأبيض فأبلغ نائب الرئيس ديك تشيني، كل المعنيين أنه المرجع في اتخاذ قرارات التعامل مع هذه الاعتداءات.
دخل عميل "الخدمة السرية" المكلف حماية تشيني وسحب نائب الرئيس نحو مخبأ سري تحت أرض البيت الأبيض حيث مركز "عمليات الطوارئ الرئاسي" الذي أصبح المركز المؤقت لقيادة الأزمة. التفكير الأولي لفريق الأمن القومي كان حماية البيت الأبيض من اعتداء محتمل، أي التركيز كان للدفاع عن النفس بدلاً من المبادرة بالهجوم. القرار الأول الذي اتخذه تشيني كان الأمر بإسقاط طائرة "يونايتد 93" التي كانت متجهة إلى واشنطن وعلى متنها مدنيون وخاطفو الطائرة. السلاح الجوي الأميركي طلب "أمراً رئاسياً" بإسقاطها لكن نائب الرئيس حسم الأمر وطلب إسقاط الطائرة إذا كانت مختطفة. في النهاية، وفّر ركاب الطائرة على السلاح الجوي هذه المهمة وأخذوا زمام المبادرة بحيث انتظروا أن تكون الطائرة فوق أراض غير مأهولة في ولاية بنسلفانيا وحاصروا الخاطفين وتمكنوا من إسقاطها فيما لم ينجُ أيّ من الركاب.
وكشف تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عام 2007 أن في تلك اللحظة اتصل تشيني بمحاميه ديفيد أدينغتون، وطلب منه الانضمام إليه في مخبأ البيت الأبيض حيث جلس الاثنان لبحث "الثورة القانونية" لإعطاء الرئيس صلاحيات استثنائية للرد على هذه الاعتداءات. بعد أسبوع، وافق الكونغرس في 18 سبتمبر 2001 على تفويض الرئيس باستخدام القوة. بعدها اعتبر تشيني ما حصل تفويضاً لشنّ حرب لا هوادة فيها ومن دون معايير أخلاقية أو قانونية. وهذا كان إشعاراً لحملات التقييد على الحريات المدنية والتجسس وسجن غوانتنامو لاعتقال المتهمين الأجانب بالإرهاب من دون محاكمة، وكانت أيضاً الحروب الخارجية من غزو أفغانستان عام 2001 إلى احتلال العراق عام 2003. أصبح لتشيني باب خلفي يدخل منه على بوش الابن ليحصل على توقيعه من دون مشاورات ولا اجتماعات لمجلس الأمن القومي. لم يتمكن أحد مثل تشيني من توسيع صلاحيات الرئيس الأميركي في الحرب من دون رقابة من الكونغرس. نقل كتاب غاريت غراف عن تشيني قوله: "منذ سنوات سمعت تكهنات بأنني رجل مختلف بعد 11 سبتمبر. لا أقول ذلك. لكن سأعترف بحرية بأن مشاهدة هجوم منسق ومدمّر على بلدنا من مخبأ تحت الأرض في البيت الأبيض يمكن أن يؤثر على كيفية النظر إلى مسؤولياتك".
أوباما وسّع مهام وتعداد القوات الأميركية في أفغانستان ولم يمانع تخفيض عدد القوات الأميركية في العراق، لكن أتى بروز تنظيم "داعش" عام 2014 ليعود بواشنطن مرة أخرى إلى قلب الحدث، في ظل الحرب على "داعش" في العراق وسورية وأفغانستان وغيرها من البلدان. أوباما فشل بتحقيق أمل الأميركيين في الانسحاب من هذه الحروب، ليأتي دونالد ترامب بعده ويواجه المأزق نفسه. كان ترامب مستعداً لعقد لقاء مع حركة "طالبان" في مقر الاستراحة الصيفية للرئيس في "كامب ديفيد" أي المكان نفسه الذي عقد فيه جورج بوش الابن أول اجتماع لـ"حكومة الحرب" بعد 11 سبتمبر لتخطيط الهجوم على تنظيم "القاعدة" في أفغانستان. ترامب ألغى هذا الاجتماع السري الذي تزامن مع ذكرى 11 سبتمبر، ليجد نفسه مرة أخرى أمام خيار الانسحاب من أفغانستان، مع ما يعنيه من احتمال حرب أهلية أفغانية وإيجاد مجموعات إرهابية ملاذاً آمناً لتخطيط هجمات محتملة في الغرب، أو خيار البقاء، أي الاستنزاف طويل المدى للموارد والجنود من دون أفق سياسي. هذا إرث تشيني الذي لم يستطع أي رئيس طيّ صفحته بعد حربين في العراق وأفغانستان، من دون استراتيجية بقاء أو خروج أميركية.