اختفى المشروع طبعاً مع خروج أجزاء واسعة من المدينة ومن المحافظة من سيطرة النظام، إلى أن حصل ما حصل، واستعاد النظام ومليشياته العدد الأكبر من أحياء المدينة، وهجر أهلها، ليبقى الوعر هو الحي الوحيد العصي على النظام ومشروعه السياسي ــ الاقتصادي ــ الطائفي العام. واليوم، مع وصول مسلسل التهجير من خلال ما يسمّى "اتفاقات مصالحة" إلى الوعر، الذي كان يفترض أن يتم التوقيع عليه يوم الأحد، قبل أن يتم تأجيله بسبب استمرار قصف المنطقة، يمكن القول إن مشروع كابوس "حلم حمص" سيعود إلى الحياة مجدداً، وإن استغرق الموضوع وقتاً بما أن الحرب السورية لا يبدو أنها وصلت إلى فصولها الأخيرة. وتنبع خشية أهل حمص من عودة مشروع "حلم حمص" إلى الحياة، من واقع أن كل أحياء المدينة تقريباً، تم تهجيرها من أهلها، وتم تدمير مقومات الحياة فيها، العمرانية والاقتصادية، وهذه شروط رئيسية لتنفيذ مشروع "إعادة إعمار" تهجيري بعنوان جذّاب على غرار "حلم حمص".
وتعتبر مدينة حمص من المدن المركزية في البلاد لوقوعها في المنطقة الوسطى، حيث ريفها الغربي هو الممر الإجباري للتنقل بين الساحل السوري (طرطوس واللاذقية) والعاصمة دمشق. وهذا التنوع الجغرافي بين الجبل والسهل والبادية، ترافق مع تنوع سكاني ضم أهل المدينة والريف والبدو، وتنوع ديني من المذاهب الإسلامية كافة، إضافة إلى الطوائف المسيحية المتعددة، وإن كان العرب السنة هم العنصر الغالب في المدينة. لم تعرف المدينة عبر تاريخها السحيق توترات عميقة بين مجمل مكوناتها، بل عرفت بالتسامح والانفتاح بين مختلف سكانها. وسكانها من المسلمين السنة عرفوا على المستوى الوطني بانفتاحهم وتوجهاتهم العلمانية، وكان منهم بعض كبار رجالات سورية خلال النضال ضد الاستعمار، واحتلوا مناصب رفيعة بعد الاستقلال عام 1946، ومن أهم العائلات الأتاسي والدروبي والزهراوي والحسيني والسباعي والدالاتي وجنيد وحربا والجندلي والسقا والأخرس. ويتركز سكان المدينة الأصليون في بعض الأحياء مثل المحطة وباب سباع ومحيط القلعة، إضافة إلى أحياء شعبية مثل المريجة، بينما يتركز البدو وهم من عشائر مثل الفواعرة والعقيدات وعرب بني خالد في البياضة، وعشيرة وباب دريب باب عمرو والإنشاءات، في حين يتركز العلويون في أحياء الزهرة وعكرمة والنزهة. أما المسيحيون، فقسم منهم من السكان الأصليين ويتركزون في حي المحطة والحميدية وبستان الديوان، ومنهم من سكان الريف الذين قدموا للتعلم والعمل ويتركز معظمهم في الحميدية وحي النزهة القريب من الزهرة.
وقد ابتليت محافظة حمص خلال السنوات السابقة للثورة بمحافظ مفوض من قبل رئيس النظام لإجراء تغييرات كبيرة في المدينة، من دون أن يمتلك مشروعا حقيقياً للتغيير، بل مجرد أضغاث أحلام لا تتناسب مع طبيعة المدينة وإمكاناتها المحدودة. وسعى المحافظ إياد غزال المعروف بغروره وتعاطيه المهين والمدعوم من رئيس النظام بشار الأسد، كونه صديقه الشخصي، إلى تحويل المحافظة من "أم الفقير" كما كان يطلق عليها، إلى منتجع للأغنياء من خلال إجراءات وقرارات ومشاريع صناعية وتجارية أرهقت سكان المدينة، الذين هم في غالبيتهم من أبناء الطبقة الوسطى أو الفقراء، ويعيشون من الزراعة والمشاريع والمنشآت الصغيرة، وحركة التهريب مع لبنان والعراق. وأصدر غزال قرارات كثيرة واتخذ اجراءات لتجسيد مشاريعه التي بدت خيالية في جانب منها، لكن اتضح أن لها غايات أخرى مع اندلاع الثورة، واتضاح أهداف النظام في تفريغ المدينة من سكانها الأصليين، ودفعهم إلى الأطراف، تمهيداً لحلول فئات أخرى مكانهم بناء على التصنيف المذهبي وعلى التحالف الرأسمالي مع السلطة. وتتضمن خطط المحافظ التي سماها "حلم حمص" تشجيع الاستثمارات الخارجية، وتحويل المدينة التاريخية إلى مدينة معاصرة تشبه مدينة دبي، محاولاً استبدال المحلات التجارية والدكاكين الصغيرة والبسطات بمراكز تجارية كبيرة وأبراج سكنية مزينة بالحدائق والزجاج. وكان المشروع يستهدف هدم الوسط التجاري القديم في المدينة ومعه مئات المحال الصغيرة، التي تعيش منها آلاف الأسر، لصالح بناء أبراج و"مولات" زجاجية، وفيلات مترفة قامت على أراض مصادرة لأبناء المدينة، بالترافق مع فساد كبير تحالف فيه رموز السلطة مع المافيات المالية الجديدة.
وقد شرد المحافظ الكثير من أبناء حيي الغوطة والوعر الواقعين على أطراف المدينة، ورفض استقبالهم وتسلم تظلماتهم خلال أشهر وسنوات طويلة، تحوّلوا خلالها الى مقهورين وقابلين للانفجار، بينما كانت ممارسات أركان من أسرة الأخرس، من أقارب زوجة رئيس النظام بشار الأسد، أسماء، وفئات جديدة أخرى متحالفة مع السلطة، تدمر مصالح صغار الكسبة والتجار والمتعيشين من الأسواق. ولم تفد الشكاوى بحق المحافظ والتي وصلت الى القصر الجمهوري في وضع حد لنهجه، الذي حول المدينة إلى بركان يغلي، إذ كان المسؤولون في القصر والحكومة مقتنعين بأن ما يقوم به المحافظ سيجلب ملايين الدولارات جراء السياحة التي ستنشط في قادم الأيام، من دون أن يقيموا أي اعتبار لمصالح الفئات المتضررة في المدينة، والتي لم يجر تعويضها عن خسائرها الفادحة. مع اندلاع الثورة شهدت حمص أكثر المواجهات الدموية مع النظام، نظرا إلى الاحتقان السائد في المدينة وإلى ردود فعل النظام العنيفة، التي أرادت بث الرعب في صفوف الأهالي لإبقائهم تحت عباءة السلطة مستعينا بكل الأساليب المتاحة لديه وفي مقدمتها التحشيد الطائفي. ومع اتساع رقعة المواجهات، وضعت السلطات خططا محكمة لتهجير سكان المدينة من خلال عدة أساليب، في مقدمتها ارتكاب المجازر حيث قامت قوات الأمن والجيش والشبيحة بسلسلة مجازر بين عامي 2011 و2013، أبرزها مجزرة الحولة في 25/5/2012، والتي حظيت باهتمام عالمي كبير.
ومن الأساليب التي اعتمدت أيضاً للتهجير، العنف الجنسي، حيث شهدت محافظة حمص بين عامي 2011 و2012 استخدام قوات الأمن والشبيحة للعنف الجنسي على نطاق واسع من عمليات اغتصاب، واختطاف نساء من المدينة، وذلك بهدف دفع الناس إلى النزوح، وهو ما حصل فعلاً، حيث جرت أغلب عمليات النزوح خلال هذه الفترة. يضاف الى ذلك، عمليات القصف المترافق غالبا مع الحصار. وتعرضت أحياء المدينة اعتبارا من مطلع عام 2012 إلى قصف مكثّف من الطيران الحربي والمروحي والقصف الصاروخي والمدفعي، الأمر الذي حوّل أجزاء كبيرة من المدينة إلى أطلال. ويعتبر حصار أحياء مدينة حمص القديمة من أطول فترات العقاب الجماعي الذي شهدته المدن السورية خلال السنوات الخمس الماضية، إذ بدأ الحصار على ريف حمص الشمالي يوم 25/5/2012، بينما بدأ على مدينة حمص يوم 7/6/2012 فضلا عن الحصار على ريف حمص الغربي. وفي منتصف عام 2014 تم التوصّل إلى اتفاق خرج بموجبه مَن تبقى من مقاتلين في حمص القديمة، وعددهم 2250، بسلاحهم الفردي مقابل الإفراج عن 70 أسيراً لبنانياً وإيرانياً، وفك الحصار الذي تفرضه قوات المعارضة على بلدتي نُبّل والزهراء في ريف حلب. وبعد خروج هؤلاء المقاتلين أصبحت المدينة القديمة تحت سيطرة قوات النظام وانتهى الحصار المفروض عليها. لكن هذا الاتفاق لم يشمل الحصار المفروض على حي الوعر في داخل المدينة، وعلى ريف حمص الشمالي، والذي تختتم فصوله هذه الأيام.
وترافق ذلك مع إجراء تغييرات في السجل المدني للمدينة وإحراق هذا السجل في الشهر السابع من عام 2013، ليصدر في الشهر الخامس من العام الماضي قرار يقضي باعتماد النسخ الرقمية للسجلات العقارية، أي أنه سيكون من الممكن للسجلات العقارية أن تُقدّم صوراً إلكترونية للسجلات، كبديل عن تلك التي قيل إنها فُقدت في حريق 2013، وهو ما يمكن أن يفتح باباً غير مسبوق أمام تزوير السجلات العقارية، فضلاً عن التغيير الديمغرافي الواسع الذي تعرضت له مدينة حمص، التي هاجر معظم سكانها الأصليين نتيجة الحملات العسكرية المتلاحقة التي تعرضت لها أحياؤهم.