قصة 18 حكومة فلسطينية: سلطة تنفيذية بلا دولة

10 مايو 2019
دخل اشتية الحكومة الحالية من عباءة فتح(عباس موماني/فرانس برس)
+ الخط -
وسط الكثير من الأزمات والضغوط بدأ محمد اشتية عمله رئيساً للحكومة الفلسطينية الثامنة عشرة، ليكون رئيس الوزراء السابع منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994، في منصب شهد تاريخاً طويلاً من الخصام و"الحرد" والتنازع على الصلاحيات والإقالة، بسبب ضغوط داخلية أو أزمات اقتصادية عصفت بالسلطة. ولم يحدث أن غادر رئيس حكومة بشكل سلس وهادئ من دون أزمات. وربما يختصر استعراض إخفاق الحكومات الفلسطينية الـ17 الماضية، وتلك الحالية، الأزمة الأصلية التي أرساها مسار اتفاقيات أوسلو، أي أن السلطة، وذراعها التنفيذية، أصبحت مطلباً لذاته، ذلك أن لا دولة أصلاً لهذه السلطة ولحكومتها.

خريطة الحكومات السابقة تشير إلى أن حركة فتح، التي لها الكلمة الأولى في تشكيل الحكومات، كانت أيضاً صاحبة القول الفصل في إنهائها. كما تشير خريطة الحكومات المتعاقبة إلى أن النظام الديمقراطي النيابي الفلسطيني تم تعطيله بشكل كامل. وفي أولى مهام سفره للخارج، شارك اشتية بمؤتمر المانحين في بروكسل، الذي عقد في 30 إبريل/نيسان الماضي، وحاول تجنيد دعم اقتصادي للسلطة الفلسطينية التي تعاني من أزمة مالية خانقة. وفي أولى جلسات عمل الحكومة الجديدة قبل أيام، وصل وأعضاء من حكومته سيراً على الأقدام إلى مقر الحكومة، في رسائل للشارع أنه قريب من الناس ولن يكون مثل سلفه.

لكن هذه الرسائل ليست غريبة أو كافية لتحصين نفسه من مصير أسلافه. فرئيس الوزراء الأسبق سلام فياض وصل إلى أبعد خربة وقرية في الضفة الغربية، وقطف الزيتون ودشن آبار مياه في مناطق نائية، ووصل إلى أراضٍ فلسطينية لم تطأها قدما الرئيس محمود عباس. ومع ذلك تمت إقالته بعد تنازع على الصلاحيات مع عباس، ورفض فتحاوي معلن له، وأزمة اقتصادية أعقبتها احتجاجات شعبية، تم فيها إحراق صوره في الشارع.

ويعتبر اشتية رئيس الوزراء الرابع الذي يخرج من عباءة حركة فتح بعد الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي تولى رئاسة خمس حكومات منذ تأسيس السلطة، بين 1994 و2003، والذي رضخ لضغوط أميركية وإسرائيلية بتحجيم دوره بسبب انتفاضة الأقصى، فاختار أمين سر اللجنة التنفيذية حينها محمود عباس رئيساً للوزراء في إبريل/نيسان 2003. لكن التنازع الكبير على الصلاحيات بين الرجلين، أدى إلى استقالة الأخير بعد أقل من ستة أشهر، ليختار عرفات أحمد قريع، عضو مركزية "فتح" في ذلك الوقت، ليترأس الحكومات الفلسطينية السابعة والثامنة والتاسعة حتى مارس/آذار 2006. وكان التنازع على الصلاحيات بين عرفات وعباس كبيراً، وأدى لتقديم الأخير استقالة بمضمون حاد في السادس من سبتمبر/أيلول 2003، جاء فيها "وحدكم فقط تملكون قرار إقالة الحكومة والتخلص منها في أي وقت، وكان بإمكانكم فعل ذلك، إلا أن الرغبة توفرت وبشكل واضح لإبقائها مشجباً تعلقون عليه الأحقاد التي امتلأت بها النفوس والقلوب والعقول، وهكذا أصبحت الحكومة دريئة (دائرة للرمي) سهلة لتصويب السهام المسمومة عليها، وأصبحت إهانتها هدفاً بحد ذاته". وجاء في الاستقالة، المنشورة على موقع مجلة الدراسات الفلسطينية، "وما دمتم مقتنعين بأنني كرزاي (الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي) فلسطين، وأنني خنت الأمانة، ولم أكن على قدر المسؤولية فإنني أردها لكم لتتصرفوا بها".


استقال عباس من رئاسة الحكومة وتعرض موكبه لهجوم وهو في طريقه لجلسة في المجلس التشريعي اشترط عدم حضور الإعلام فيها، فتعرضت نوافذ المجلس التشريعي للتكسير على يد مجموعة من الفتحاويين الغاضبين منه، صاحَبتها عبارات تخوين، ما اضطره للاعتذار للمجلس التشريعي قائلاً "أقدم اعتذاري للمجلس التشريعي على الإهانة التي وجهت إليه بسبب زيارتي، ما أدى إلى تكسير بعض الزجاج والاعتداء على بعض أعضاء الحكومة، وأعمال الشغب التي قام بها البعض وأدت إلى ما أدت إليه. فأنا وباعتبار أن هذا حدث بسبب زيارتي للمجلس أقدم اعتذاري له". لكن بعد أقل من عام على الحادث، رشحت "فتح" عباس ليكون رئيس السلطة خلفاً للراحل عرفات، وبذلك أصبح رئيس السلطة ومنظمة التحرير و"فتح". في ذلك الحين، قبل عرفات استقالة عباس بعد ساعات، وكلف أحمد قريع "أبو علاء" بتشكيل حكومة جديدة، والذي كان حينها نائباً في المجلس التشريعي عن حركة فتح، ويتولى رئاسة المجلس التشريعي، وكان عضواً في اللجنة المركزية للحركة عن مؤتمرها الخامس، أي منذ 1988 إلى 2009، لكنه فشل في انتخابات مركزية "فتح" في مؤتمريها السادس في 2009 والسابع في 2016، ومنذ ذلك الحين لم يتولَّ قريع أي منصب فعلي في "فتح" أو في السلطة الفلسطينية. وقاد قريع الحكومات السابعة والثامنة والتاسعة، واستقال في العام 2006 ليفسح المجال أمام أول حكومة منتخبة لحركة حماس بعد اكتساحها مقاعد المجلس التشريعي.

وشهد العام 2006 وحتى يونيو/حزيران 2007 شهر العسل الفلسطيني الوحيد بين حركتي فتح وحماس، إذ شكل القيادي في "حماس" إسماعيل هنية الحكومة العاشرة، تلتها حكومة "الوحدة الوطنية" الحادية عشرة، والتي انتهت بإقالته من قبل عباس بعد أحداث غزة في يونيو 2007، ليكون هذا آخر عهد الفلسطينيين بانتخابات تشريعية تتيح للفائز تشكيل حكومة فلسطينية، كعرف ديمقراطي نيابي حسب القانون الأساسي الفلسطيني. وكمخلص ورجل المالية، الذي يحظى بقبول أميركي ودولي، تم الترويج لفياض الذي دخل الحكومة الفلسطينية من بوابة وزارة المالية، التي ترأسها بين 2002 و2005، ثم في حكومة "الوحدة الوطنية" التي شُكلت في مارس/آذار 2007 وانتهت سريعاً، ليتولى منذ 2007 وحتى استقالته منتصف 2013 الحكومات الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة، وليبقى على أجندته وأجندة من بعده من رؤساء الحكومات حتى اليوم أهداف لم تتحقق، أهمها إجراء الانتخابات الفلسطينية. وإذا كان فياض دخل الحكومة من بوابة وزارة المالية، مدعوماً بسيرة ذاتية بالعمل في البنك الدولي ولاحقاً ممثلاً لصندوق النقد الدولي في القدس المحتلة وتأييد أميركي، فإن اشتية دخل الحكومة الحالية من عباءة "فتح" ومسؤوليته عن مالية الحركة، حيث يُنظر له على أنه الأكثر كفاءة في الحركة فيما يتعلق "بالأرقام والاقتصاد". لم تحب "فتح" يوماً فياض، وظلت تُحرض عليه على اعتبار أنه دخيل على السلطة التي أسستها الحركة، وأن الدعم الأميركي له سيسهل وصوله لرئاسة السلطة. وكان تحريض قادتها ضده علنياً.

ذات السيناريو الفتحاوي، تكرر مع رئيس الوزراء السابق رامي الحمد لله، إذ قام المجلس الثوري لحركة فتح بإرسال توصية موقعة باسم عشرات الأعضاء إلى عباس، بضرورة إقالة حكومة الحمد لله. ورغم أن الحركة لم تر في الحمد لله خطراً أو تهديداً حقيقياً للاستحواذ على السلطة، بدليل انقسام آراء مركزية "فتح" بين مؤيد للإقالة ورافض لها، فإن الاستياء الشعبي المتزايد من سياسته، وكان آخر تعبيراته تظاهرات الضمان الاجتماعي التي شارك فيها الآلاف، جعل "فتح" تتخوف أن يرتد عليها هذا الغضب. وتقول مصادر رفيعة المستوى، لـ"العربي الجديد"، إن قادة "فتح" لم يروا في الحمد لله خطراً حقيقياً أو منافساً على الرئاسة، وحرصوا أن يبقى موظفاً كبيراً برتبة رئيس وزراء، لذلك عندما وضع عباس اسمه ضمن قائمة أسماء رشحها لعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في نهاية اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني نهاية مايو/أيار الماضي، جاء الرفض من جميع قادة الحركة، التي جزمت أنها لا تريد أي مستقبل سياسي للحمد لله.

وعلى النقيض من فياض، الذي كان أحد أهم أسباب استقالته تنازعه على الصلاحيات مع عباس، والذي دلّت عليه استقالة وزير المالية في حينه نبيل قسيس، التي وافق فياض عليها ورفضها عباس، لم يشهد عهد الحمد لله أي تنازع على الصلاحيات مع الرئيس، إذ كان قرار الأخير هو النافذ دوماً، وإن كان الحمد لله قد حاول الاستقالة في بداية عهد حكومته قبل سنوات، لكنه سرعان ما تراجع عنها حين علم أنه لن يعود رئيساً للجامعة إذا أصر على الاستقالة، أي "أنه سيخرج من مقر الرئاسة إلى البيت وليس لمنصبه رئيساً لجامعة النجاح"، حسب ما أكدت مصادر لـ"العربي الجديد". الحمد لله وفياض كلاهما صناعة غير فتحاوية، ولم يكونا يوماً ضمن أي هيئة قيادية للحركة، لكن التظاهرات والمسيرات في الشارع خرجت بوجههما، ما أدى إلى إقالتهما. وتبع إقالة فياض ملاحقته والتضييق عليه عبر إغلاق شركة غير ربحية "فلسطين الغد" كان يديرها، وقرار النائب العام بالحجز على أموالها وحساباتها المصرفية، ما اضطره لأخد قرض بنكي شخصي للوفاء بالتزاماته المالية حيال موظفيه. وبعد قيام رئاسة الوزراء بإجراء تعديل على قانون الشركات غير الربحية في العام 2015، لا يسمح للشركات غير الربحية بتلقي أي أموال دعم ومنح إلا بعد موافقة مجلس الوزراء، وهو القانون الذي قيل إنه تم "تفصيله خصيصاً من أجل فياض"، الذي لم تحصل شركته على أي موافقة لاستقبال الدعم، اضطر فياض لمغادرة الأراضي الفلسطينية ليدرّس ويعيش في الولايات المتحدة الأميركية. أما الحمد لله فتؤكد مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، أن احتمالات "عودته رئيساً لجامعة النجاح الوطنية ضعيفة جداً، رغم أن منصب رئيس الجامعة ظل شاغراً مدة ست سنوات، أي طيلة تولي الحمد لله رئاسة الحكومة، إذ كان حريصاً على ألا يشغل المنصب أحد غيره، وبقي نائبه للشؤون الأكاديمية قائماً بأعمال رئيس الجامعة طيلة السنوات الماضية".

وبينما تُصارع حكومة اشتية للبقاء في ظل عقوبات اقتصادية أميركية وإسرائيلية ورفض عربي غير معلن لتفعيل شبكة الأمان العربية أو تقديم قروض للسلطة، يرفع اشتية شعار "الاقتصاد المقاوم" على أمل الانفكاك من السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية. لكن فرص نجاح هذه المحاولات ستبقى ضئيلة، لأسباب فلسطينية داخلية وإقليمية ودولية، إذ لم يسبق أن حقق الاقتصاد الفلسطيني، وهو في أفضل الفترات السياسية مع إسرائيل وأميركا، انتعاشاً واختراقاً مكّنه من الاستقلال عن الاحتلال والدعم الخارجي، ذلك أننا نتحدث عن سلطة أسسها مسار أوسلو، بلا دولة. وفي هذا السياق، أوضح الصحافي المختص في الشأن الاقتصادي محمد عبد الله، لـ"العربي الجديد"، أنه "في نهاية حقبة فياض، استقر إجمالي الدين العام (الداخلي والخارجي) المستحق على الحكومة الفلسطينية بنحو 8.49 مليارات شيكل (2.358 مليار دولار) حتى نهاية مايو/أيار 2013، بينما أنهى رئيس الحكومة السابق رامي الحمد الله فترته بإجمالي دين عام (داخلي وخارجي) بلغ 8.916 مليارات شيكل (2.476 مليار دولار) بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2018 وذلك بناء على أحدث البيانات المتوفرة". وحول المنح الخارجية، قال عبد الله "في العام الذي أنهى فيه فياض فترته رئيساً للوزراء (2013)، بلغ إجمالي المنح الخارجية الواردة للخزينة الفلسطينية 4.915 مليارات شيكل (1.365 مليار دولار). إلا أن المنح الخارجية لفلسطين تراجعت منذ 2014، لأسباب سياسية مرتبطة بتوجه الرئيس محمود عباس للأمم المتحدة للحصول على عضوية بصفة مراقب، وأسباب اقتصادية إقليمية أخرى، لتستقر عند 2.411 مليار شيكل (670 مليون دولار) في 2018".

وغالبية الحكومات السابقة أطلقت شعارات برّاقة، لكنها سرعان ما بهتت على أرض الواقع ثم تلاشت بفعل الاحتلال أو الاحتجاجات الداخلية والإقالة. فبينما كان شعار حكومة فياض "بناء المؤسسات وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة"، الأمر الذي لم يحدث، جاء شعار الحمد لله "المواطن أولاً"، لكن عهده الذي شهد جملة من القوانين المقيدة للحريات، جعل العشرات من المواطنين، وتحديداً في مسقط رأسه طولكرم، يحتفلون بإقالته على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر مقاطع مصورة لإطلاق أبواق السيارات أو كسر الجرة. ما يعني أن الصعوبة التي ستواجه مهمة اشتية، وشعاره "الاقتصاد المقاوم"، ستكمن ليس فقط في الحصار المالي على السلطة، وإنما في الرمال المتحركة التي خلّفتها الحكومات السابقة، ما يجعل وقوف حكومته على أرض صلبة أمراً صعباً.

وما يزيد الأمور تعقيداً، أن هذه الحكومة هي حكومة "فتح" التي طالما قادت الاحتجاجات ضد الحكومات السابقة وأقالتها. فقد قبل اشتية تكليف عباس له "باسم حركة فتح، حامية مشروعنا الوطني"، كما جاء في رده على رسالة الرئيس للتكليف، ولم يستمع لمزاح جدي لعباس حين قال له "لو كنت محلك (مكانك) ما بقبل" حسب ما قال اشتية في أكثر من لقاء خاص سبق تشكيله للحكومة. فحركة "فتح" غير جاهزة لأي إخفاق في الحكومة لن يُحسب إلا عليها، وهذه المرة بشكل مباشر ودون مواربة أو تحميله للغير، رغم أن المعادلة الفلسطينية المعروفة للجميع تفيد بأن رئيس الحكومة وحده ليس اللاعب الأساسي، في بلد محتل، تحكمه الأجهزة الأمنية ويُحكم الرئيس قبضته على النظام السياسي، ليبقى هامش تحرك أي حكومة، حتى لو كانت فتحاوية، محدوداً.