إلى البنك الدولي: أنت "اللغز" لا الثورات

09 نوفمبر 2015
تقارير مغلوطة صادرة عن البنك الدولي(Getty)
+ الخط -
أجرت "العربي الجديد"، العام الماضي، حديثاً مع المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط في البنك الدولي فريد بلحاج، خلال زيارته لبنان، سألنا بلحاج أكثر من مرة عن الفساد الذي يسيطر على غالبية الأنظمة العربية وتأثيره على الاقتصاد وعلى نشوب الثورات، إلا أن التهرب من الأسئلة كان واضحاً جداً. بعد استخدام أكثر من حيلة في طرح الأسئلة، وفشلها كلها في الحصول على موقف واضح، كان لا بد من الاتجاه نحو طرح سؤال مباشر: "لماذا لا تعلن موقفاً واضحاً يرتبط بطبيعة الأنظمة وببنية الفساد فيها"؟ أجاب بلحاج حينها بعبارة مقتضبة: "ما أريد أن أقوله، إنه إذا كانت دول المشرق العربي كلها مثالية، فليس هنالك حاجة للبنك الدولي، ولا للصحافة الاقتصادية".
بعد عام على هذه الواقعة، أعلن البنك الدولي أخيراً في تقرير نشر على موقعه الإلكتروني أن "المؤشرات الاقتصادية تفشل في التنبؤ بانتفاضات الربيع العربي". وأورد البنك في تقريره، أن "الاعتماد القديم على المؤشرات الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أخفى مستوى الإحباط والسخط بالمنطقة قبل أحداث الربيع العربي". لا بل وصف البنك هذا الأمر بـ "اللغز". هل هو لغز فعلاً؟ أم أن المشكلة مرتبطة بآليات عمل البنك الدولي، واتجاهه الواضح في التعاون مع حكومات وأنظمة فاسدة، والركون إلى مؤشرات هذه الأنظمة في إصدار تقارير بمعلومات مغلوطة؟

اقرأ أيضاً: توزيع الثروة الوطنية أساس الاقتصاد العادل

ما صدر عن البنك الدولي مستفز فعلاً، لا بل يوحي بفوقية تصل إلى حد استغباء الشعوب. وبرغم "النقد الذاتي" الخجول الذي أعلن عنه البنك في طيّات تقريره، فإن إعادة الفشل في التنبؤ بالثورات العربية إلى "المؤشرات الاقتصادية" بشكل مجرد تماماً عن توصيف دقة هذه المؤشرات أو عدمها، يوحي بأن البنك يستخدم آليات الأنظمة العربية ذاتها، في تجهيل "الفاعل" ومعالجة النتائج بلا تشريح الأسباب بشفافية خالصة. لا بل إن تقرير البنك المؤلف من 56 صفحة، يتعاطى مع معاناة ملايين العرب على أنها حقل تجارب لسياساته. وهو كمن يقول: "لم ننجح في معرفة انزعاج الشعوب من السياسات التي تطبقها الأنظمة إلى درجة قيامها بثورات، سنسعى لتنفيذ آليات أخرى". وكأن فشل وتعسف وانحياز السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقت ولا تزال مستمرة في بلدان الثورات والدول الأخرى، تحتاج إلى معجم مريخي لفهمه وتحليله!
يقول التقرير إن "المنطقة كانت تحقق تقدماً مطرداً نحو بلوغ هدفي البنك الدولي المتمثلين في إنهاء الفقر، المدقع وتعزيز الرخاء المشترك، باستثناء اليمن".

طبعاً، ستكون هذه النتيجة متوقعة، حين يعلن البنك قبل عام واحد من إحراق البوعزيزي نفسه احتجاجاً على جور البطالة، أن معدل البطالة في تونس وصل إلى 3.8% فقط ويصفه البنك بأنه من أدنى المعدلات في الشرق الأوسط. وبالتأكيد، لن يكون بلوغ الأهداف هذه صعباً، حين يخرج البنك الدولي برقم ليحدد نسبة البطالة في مصر في دراسة نشرها في العام 2011، قبل سبعة أشهر من انطلاقة الثورة بـ 9.4%، في دراسة بعنوان "الفقر في مصر/ 2008-2009"، مستنداً بذلك إلى الإحصاء المركزي المصري. وينسحب هذا الواقع طبعاً على بلدان أخرى.
ويسأل التقرير: "هل كان التفاوت الاقتصادي أعلى كثيراً مما تشير إليه بيانات إنفاق الأسر المعيشية؟ أم هل كانت المظالم مرتبطة بعوامل أخرى بخلاف التفاوت الاقتصادي، مثل تدهور نوعية الحياة بشكل عام، أو تنامي الفساد، أو انعدام الحرية"؟ لا بل يتابع التقرير أنه يريد أن يجد "إجابة ممكنة على لغز غياب المساواة في العالم العربي"!
بطبيعة الحال، سيعتبر البنك الدولي أن غياب المساواة في العالم العربي "لغز"، حين يقوم بقياس مؤشرات البلدان بمعايير موحدة، ويتعامل مع الأرقام الرسمية بثقة لا تستدعي منه الشك حتى لو كانت تتناقض تماماً مع الحقيقة التي تعيشها الشعوب.
تقرير البنك الدولي الذي مر "مرور الكرام" في غالبية الصحف العربية، لم يتلقفه عدد من خبراء الاقتصاد العرب ببساطة (اقرأ ملف: البنك الدولي فانوس سحري للحكومات العربية)، خصوصاً أنهم يتابعون ما يصدر عن البنك، وقد وجهوا انتقاداتهم في السابق إلى عدد من المؤشرات المرتبطة خاصة بالفقر والبطالة، والتي أعطت صورة وردية عن بعض الأنظمة، لتستخدمها الأخيرة كصك براءة تجاه ما ترتكبه بحق الناس.
يعرّف البنك الدولي مهمته بتحقيق هدفين: إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء. إلا أن البنك الذي شارك الأنظمة العربية إعداد التقارير الوردية عن واقع الشعوب العربية، يستغرب "لغز" انطلاقة الثورات. بديهي، فتمكين الدول للاستدانة من البنك، يستوجب طمر الرأس في الرمل.

اقرأ أيضاً:الاقتصاد العالمي في ورطة
المساهمون