دولة يحكمها أولاد الحلال

11 مايو 2015
ترتبط بنى الاستبداد بشعارات أو أيديولوجيا تغلفها وتحميها (أرشيف)
+ الخط -
ترتبط بنى الاستبداد بشعارات أو أيديولوجيا تغلفها وتحمي مصالحها، وقد عرفت الثورات العربية صعوداً لاستخدام الشعارات للدفاع عن مصالح الطبقات الحاكمة، لكن تمظهر واستخدام الدين وشعاراته في إقرار وضع اجتماعي أو إجراءات اقتصادية تخدم النظم، سلوك قديم.

فقد تم الربط بين الحاكم وسلطة الدين حتى قبل أن تعرف الشعوب الأديان السماوية، ففي أفريقيا تعددت نظم الحكم التي تحولت فيها القبيلة إلى دولة مستخدمة الدين كأداة للتنظيم الاجتماعي الذي يحكم العلاقات السياسية، ويقسم المناصب والثروات. قد كان الحاكم الإله ابن السماء، يوحي إلى باقي أفراد القبيلة بقدراته الخارقة. أما أبناء القبيلة فهم أبناء الأرض، والزعيم وحده من يملك الشجاعة والحكمة والقوة، وعلى هذا الأساس بنيت دول "تمثل قيم القبيلة".

يبدو أن وضع النظم الآن متأثر بالرواسب الثقافي وأن حالات الأزمة تستدعي ثنائية الدين والسلطة، حتى لتلك النظم التي تدعي أنها نظم مدنية، وعند بدايات تولى نظام حكم مأزوم يبدأ باستخدام شعارات ورموز تضفي عليه الشرعية.

النظام الحالي، ومن يقف بجواره من من ارتعبوا من الثورة، يمثلون بنيه سلطوية أشبه بالقبيلة، تتمثل مكوناتها في قوى وأجهزة القمع والقضاء والتشريع، وكذلك ينضم إلى معشر قبيلة السلطة النخب المدافعة عن قيم القبيلة، البعض انضم للقبيلة بدافع الخوف من تأسس دولة دينية، لكن هؤلاء الآن صامتون على التوظيف السياسي للدين.

خرست الألسن وتلاشت أصواتهم، الذين تصدوا إلى الصكوك الإسلامية حينما أعلنها المعزول محمد مرسي، لم نسمع صوتهم الآن بالرغم من أن ما أعلنه مرسي هو ذاته ما يعلن اليوم، وهو إعادة إنتاج لصكوك مبارك واستمرار لبرامج الخصخصة التي تحولت الآن إلى مسمى آخر، اسمه "تأجير مصانع"، هذه السياسات التي مثلت خياراً لسلطات ما قبل الثورات وما بعدها لحل الأزمة الاقتصادية.

وفي ذات السياق، واتكاء على النص الديني لقبيلة الحكم الثلاثية، استندت المحكمة الإدارية العليا إلى الشريعة الإسلامية لتجريم الإضراب، في الحقيقة قبيلة الحكم الحالي ومؤيدهم، ومن قبلهم نخب مبارك لا يعنيهم كثيراً أن تقوم دولة ديمقراطية مدنية أو دينية، لا يعنيهم شكل الدولة السياسي بل يعنيهم مضمونها الاقتصادي، وهم بذلك راضون عن أي شكل طالما ستستمر مصالحهم. وهنا يبدو القول الفصل بين من عارض مبارك ومرسي والسيسي على أسس خلق نظام جديد، وبين من عارض ليكون موضع من رحل دون أي تغيير للبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة.

السلطة تحرم الإضراب، لكن لا ترى حرمه في الجوع والعوز والبطالة. لا يرون غضاضة المؤيدين للسلطة ليبراليين كانوا أو يساريين، من التبعية لأميركا والتأكيد على العلاقة الإستراتيجية ليل نهار، إذن الدين والوطنية أوراق للمتاجرة وستظل كذلك لأن قوى الإستغلال والاستبداد لا تستطيع أن تحيا الا بتزييف الوعي، والاختباء وراء الشعارات. أنها دولة الحلال التي تجرم الحرام "الإضراب" والتي يقودها أولاد الحلال، أما المقابل لهم فهم الثوريون وليسوا أولاد حلال بالطبع، وجزاؤهم إذا اقترفوا ذنب الاختلاف أو الاحتجاج، السجن عبر تطبيق قانون التظاهر، ولهم كذلك البطالة أو العمل غير الآدمي والسكن في غرفة واحدة أو مسكن 38 متراً، وهذا المسكن يعد فرصة رغم بؤسه!

هذا هو الواقع الذي لا تريد أن تراه كثير من النخب التي عارض بعضها مبارك، وتؤيد اليوم السيسي، تلك النخب لا تعرف أو تتصنع عدم المعرفة بأن الديمقراطية والدولة المدنية لا تبنى في ظل الاستبداد. إن القوى المحافظة التي حكمت بعد 2011 ستلجأ لقمع القوى الاجتماعية والعمالية التي تحمل برنامجاً للتغيير، وتتناسى النخب المؤيدة.

أن النظم التي تقمع العمال وتفصل العشرات منهم لا يمكن أن تبني نموذجاً لدولة مدنية عادلة، بل ستواجه كل من يتجاسر على المطالبة بحقوقه، لأنها تدرك طبيعة الأزمة، فتسعى لتأجيل المواجهة بالقمع أحياناً وببيع الآمال الكاذبة في أحيان كثيرة. نستطيع القول إن توظيف آليات الدين والقمع لتثبت الوضع ومواجهة الأزمة، هي منتجات طبيعية للنظام واليات ضرورية وليست مجرد انحراف.
(باحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية - جامعة القاهرة)
 
المساهمون