الدعم النفسي لثوار السودان... خيم للتأهيل والإرشادات السلوكية في اعتصام القيادة العامة
معاناة عبدالله تحولت إلى اكتئاب وريبة في من حوله، حتى من إخوته في المنزل، كما قال متابعا: "أوقات يخيل لي أن أي شخص ينظر إليّ لعدة دقائق متواصلة هو رجل أمن"، وهو ما دعاه إلى البحث عن علاج في إحدى خيام مركز الدعم والخدمات النفسية التي أسستها إدارة اعتصام المتظاهرين السودانيين في محيط القيادة العامة للجيش، والذي بدأ في 5 إبريل/نيسان الجاري.
ويعد عبد الله واحداً من بين أعداد تقدر بحوالي 3 آلاف متظاهر تم اعتقالهم على فترات متفاوتة جرى الإفراج عن أغلبهم فيما قتل 40 محتجا وفق تقدير منظمة العفو الدولية، ويعاني بعض المحتجين من آثار نفسية بسبب التعذيب الذي عانوه داخل السجون أو جراء صدمة تعرض أصدقاءهم للقتل، وهو ما يعمل الطبيب النفسي عثمان درويش وعدد من المختصين على التخفيف من آثاره ومحاولة علاجه، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "يوجد 21 حالة تتلقى العلاج بشكل دوري في العيادة النفسية التي تطوعت بها داخل ساحة الاعتصام".
ويضيف درويش الذي يعمل في مركز الرواد للتدريب والاستشارات النفسية في الخرطوم، أن ساحة الاعتصام بها أربع عيادات (خيام) للدعم النفسي يتردد عليها يوميا ما يزيد على مائة من الموجودين في مقر الاعتصام للحصول على خدمات واستشارات نفسية وإرشادات سلوكية.
ويشرف على خيام الدعم النفسي الاستشاري، محمد عبد العزيز، أستاذ علم النفس في جامعة الأحفاد الخاصة وفي جامعة النيلين الحكومية، ويتطوع 50 طبيبا وطبيبة من الدرجات العلمية المختلفة في معالجة المترددين وفق ما أوضحه درويش.
إرشادات سلوكية ونفسية
بينما يتردد الشباب والشابات المشاركون في اعتصام القيادة العامة على خيام الدعم النفسي للتعرف إلى خدماتها المختلفة وطلب الاستشارات، يتجول عدد من المعالجين النفسيين على طول ساحة الاعتصام الممتدة لعدة كيلومترات لتقديم إرشادات سلوكية ونفسية للمعتصمين، كما يقول المعالج النفسي، يوسف الفشاشوية والذي يعمل في عدد من العيادات الخاصة بالخرطوم، مضيفا "المجتمع السوداني عانى من الكبت والقهر سنوات طويلة؛ وبعضهم بحاجة إلى الدعم النفسي لضبط سلوكياته وتصرفاته في ساحة الاعتصام وفي تعامله مع الأحداث والآخرين الذين يشاركونه الهم والمصير".
ويعتبر الفشاشوية أن حالة الانفعال الزائد والشحن الذي يحمله أي معتصم عبارة عن طاقة كبيرة تحتاج إلى أن توظف بشكل إيجابي حتى لا تتبدد وتخرج عن الإطار والتأثير المفيد في الحدث، ويتابع: "بعضهم يأتي بطموحات كبيرة وآخرون محبطون، ومنهم من لا يشعر بالأمان، ومن أجل ذلك جرى تصميم شعارات بسيطة ومطمئنة يرددها الثوار من قبيل "ابتسم أنت في القيادة.. وسلمية سلمية... وارفع إيدك فوق التفتيش بالذوق".
ورصد الفشاشوية تردد حالات أخرى تحتاج الى أكثر من العون والإرشاد النفسي وتلك يتم تحويلها إلى المستشفيات العامة، كما أردف قائلا: "منذ بدء الاعتصام تم تحويل ما يقارب خمسين شخصاً إلى المشافي والعيادات المتخصصة".
ويؤكد عدد من المعالجين النفسيين الذين يشاركون في الاعتصام لـ"العربي الجديد" أن الشعارات التي يرفعها شباب مبتسم للترحيب بالقادمين إلى الاعتصام عند الحواجز اختارها الخبراء النفسيون بعناية فائقة، لامتصاص الانفعالات والشحن الزائد وتهيئة العقل والنفس لمشاركة الجميع بشكل إيجابي في الاعتصام، ومنها عبارة "سلمية سلمية" التي أصبحت عادة يرددها الشباب المشاركون مع كل محاولة لفض اعتصامهم، كما يقول الطالب في كلية الطب بجامعة كردفان الحكومية محمد ضمرة: "الكلمتان ترسختا في ذاكرتنا وسلوكنا".
الخوف من المجهول
داخل ساحة الاعتصام التي تعج بالمشاركين من مختلف الأعمار قد تتردد بعض الشائعات كما يقول الفشاشوية، موضحا أن بعضها يمكن أن يسبب ارتدادات نفسية سيئة تكون مدعاة لحالة من الإحباط تنتشر وسط المشاركين الذين لمس تأثر بعضهم بما تحمله وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار ومعلومات غير دقيقة، تجعلهم يخشون ضياع مجهودهم المستمر منذ أربعة أشهر منذ خرجوا للتظاهر ضد النظام، وحتى لا ينتشر الخوف والإحباط يعمل المعالجون النفسيون على طمأنتهم وإعادة التوازن النفسي إليهم، خاصة أن بعضهم تعرض لتجارب هددت حياته، مثل الطالبة الجامعية هالة عثمان التي شاهدت كيف تدافع الثوار لمواجهة قوات الأمن والرصاص يتطاير فوق رؤوسهم، حتى أنهم تحدوا الجرافات العسكرية التي حاولت فض الاعتصام، وصنعوا من أنفسهم متاريس بشرية، قائلة: "أصبح الموت والحياة سيّان، ولن نتزحزح إلا بعد تحقيق مطالبنا، ولو استدعى الأمر أن نواصل الاعتصام أربعة أشهر أخرى، لم تعد أرتال الدبابات العسكرية ولا الجنود المدججون بالسلاح الذين يتجولون وسط الساحة يرهبوننا".
ثورة وعي
لاحظت حليمة عثمان المختصة النفسية في المجلس الثقافي البريطاني بالخرطوم من خلال حديثها مع شباب من الجنسين لا تتجاوز أعمارهم 30 عاما ترددوا على خيمة دعم نفسي تطوعت فيها، تغييراً كبيراً في طريقة تفكيرهم، قائلة: "بعضهم كان يحدثني أن الثورة عندهم وعي شامل وليست مجرد تغيير سياسي فحسب، وأصبحت روح المسؤولية عندهم أعلى وقلّت الأنانية، حتى صاروا يؤثرون الآخرين على أنفسهم، ويخدمون بعضهم بعضاً عن طيب خاطر واحترام متبادل واختفت كثير من السلوكيات التي كنت تجدها في المجتمع خارج الاعتصام ورغم كثرة وجود الفتيات فإنهن لم يشتكين من التحرش نهائياً".
ويتفق المختصان النفسيان حليمة والفشاشوية بأن الحالات التي تتردد بكثرة على عيادة الدعم النفسي في ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة، عانت من صدمات نتيجة الحزن الشديد لفقدانهم أصدقاء ورفاقاً في الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الأربعة الماضية حتى أن بعضهم ما زال لا يصدق ما حدث من تغيير كبير فقد كان مفاجئاً بالنسبة إليهم، وتوضّح حليمة أن المختصين في عيادات الدعم النفسي بالميدان يلجؤون إلى العلاج المعرفي السلوكي لأنه عملي أكثر وتأثيره أسرع، وخاصة في مداواة أصحاب الصدمات والإحباط.
ويعود الفشاشوية ليقول: "فوجئت بحماس الشباب السوداني المشارك في الاعتصام ورغبتهم في التغيير بعد استعادة ثقتهم بأنفسهم، رغم معاناة التعذيب والاعتقال وفقدان الأحبة" ومن بينهم الثلاثيني شهاب الدين الذي شارك في عدد من المظاهرات في حي بري، قائلا: "ما رأيته فاق حد التصور لم يكن محاولة لفض المظاهرات بسبب شدة القمع العنيف، واجهنا الرصاص الحي الذي كان يطلق بشكل عشوائي على المتظاهرين وحتى على المواطنين داخل المنازل، ما شكل ضغطا نفسيا لم أستطع تحمله، وأرشدني الشباب في الميدان إلى العيادة كي أتمكن من تجاوز الحالة النفسية السيئة التي مررت بها، والحمد لله، بعد جلسات كثيفة مع الباحثة النفسية عدت إلى طبيعتي".
حالات تسعى للتخلص من الإدمان
عالج الباحثون النفسيون المشاركون في الاعتصام حالات لديها رغبة قوية في التخلص من آثار الإدمان على بعض أنواع المخدرات، إذ صاروا يشعرون بانتهاء الأسباب التي دفعتهم للإدمان بعدما تحسن مزاجهم العام بسبب المشاركة في التغيير الذي يشكل حافزا قويا للتغلب على مشاكلهم الخاصة.
ويقدر درويش أعداد المترددين على العلاج من الإدمان بالعشرات خلال أيام الاعتصام، قائلا: "نقدّم لهم بعض الإرشادات النفسية في كيفية التخلص من الإدمان ونوجههم للذهاب إلى المصحات النفسية المتخصصة، لأن العلاج من الإدمان تصاحبه أعراض انسحابية تتطلب علاجاً تحت إشراف الأطباء لفترة ليست بالقصيرة".
تخطي الاختلافات الإثنية والجهوية والقبلية
أعادت الثورة السودانية تشكيل الوجدان الجمعي، وهو ما يبدو في الانسجام الكبير بين الشباب والتعاون الساري في ساحة الاعتصام التي أزالت كل الاختلافات الإثنية والجهوية والقبلية والفوارق الطبقية، كما يرى المعالج النفسي عباس الكانوري، والذي يعمل في وزارة التنمية الاجتماعية قائلا: "لا أحد يسأل الآخر من أين أنت؟ أو من أي القبائل أنت؟ هؤلاء شباب وحّدهم حب الوطن وجمعتهم مطالبهم لبناء بلد يتعايشون فيه جميعا".
وتؤكد العشرينية نورا فيصل، ما قاله الكانوري قائلة: "شاركت وصديقاتي في عدد كبير من التظاهرات، وخصوصا في ضواحي بري وبحري وفي وسط السوق العربي بالخرطوم وتعرضنا للاعتقال عدداً من المرات، بعضها استمر لساعات ثم أُطلق سراحنا، وعشنا خلالها أوقاتاً عصيبة من المعاملة القاسية من القوات الأمنية بالضرب والإساءات الخادشة للحياء، ولكنّ الجميع متوحدون لتحقيق هدفنا في تغيير كامل للنظام".
وترددت نورا على خيمة للدعم النفسي، إذ عانت من سيطرة رغبة جامحة في الانتقام من أي شخص ينتمي إلى مؤسسة أمنية بعدما ما عانته قائلة: "أصبحت أشعر بحقد وظلم لا يوصفان نصحني الشباب بضرورة الاستشارة النفسية، وأدت إلى استعادتي للتوازن النفسي مرة أخرى"، وإلى جوارها في خيمة الدعم النفسي يوجد أحمد علي، الآتي من إحدى الدول الأوروبية والتي هاجر إليها منذ سنوات هربا من بطش النظام السابق، قائلا والدهشة تعلو وجهه: "يوجد تغيير كبير يمكن أن تلمسه في تواري مشاعر الإحباط وانتشار اللطف والرقي في التعامل، حتى أن الشباب الذين يفتشون المشاركين يعتذرون بعبارات الأسف الشديد بعد عملية التفتيش الدقيقة للداخلين إلى ساحة الاعتصام".