الأمن المائي العربي[1/ 6]..إيران وداعش يدمران مياه العراق

28 ابريل 2015
نهر دجلة معرّض للجفاف خلال 40 عاماً (فرانس برس)
+ الخط -
بالرغم من الاستقرار الأمني النسبي الذي تعيشه مناطق جنوب بغداد، إلا أن المزارع كريم سرحان الكرطاني، اضطر إلى هجر أرضه الزراعية مرة أخرى، بحثاً عن مصدر رزق جديد في العاصمة، بعد يقينه بأن العمل في الأرض بات عبثاً في ظل انعدام شبه تام للمياه وعدم جدوى طرق استخراجها، التي تكلفه ضعف قيمة الوارد المالي الذي يحصل عليه من بيع محاصيله الزراعية.

الهجرة الحالية للكرطاني، جاءت بعد استنفاد كل محاولات توفير المياه لأرضه الزراعية، إذ قام في البداية بالاتفاق مع جيرانه المزارعين على تقسيم حصة المياه القليلة الواصلة إليهم من نهر اليوسفية، لكن هذا الحل لم يصمد إلا أياماً قليلة، قبل أن تنخفض المياه في النهر إلى مستوى تعجز المضخات الزراعية عن سحبه، ليلجأ بعدها إلى حفر الآبار التي تكلف أموالاً طائلة، وتنتهي غالباً بالجفاف السريع، أو تكون المياه المستخرجة منها غير صالحة لري المحاصيل الزراعية.

يؤكد الكرطاني، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن "حالة العطش الشديد التي تضرب مناطق جنوب العاصمة بغداد، وسلّتها الغذائية، أجبرت فلاحيها على هجر أراضيهم وتحولوا إلى ما يشبه البدو الرحّل الذين يبحثون عن أي فرصة عمل هنا أوهناك، في ظل عدم التحرك الحكومي من أجل إيجاد حل حقيقي لإنقاذ القطاع الزراعي في العراق، ما أحال العراق إلى مستورد لجميع المحاصيل الزراعية المنتجة في بلدان كانت إلى وقت قريب تستورد هذه المحاصيل من بلاد الرافدين.

التردي بدأ من حصار عام 1990

يوضح الباحث في شؤون المياه في المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، أحمد شارع إبراهيم، أن الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق عام 1990، كان له التأثير الأكبر على تردي الواقع المائي في العراق من خلال انخفاض صيانة المشاريع الإروائية، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته بأن سياسات وزارة الموارد المائية آنذاك حرصت على تطبيق إجراءات رادعة للمتجاوزين على شبكات المياه الخدمية والمشاريع الإروائية، وعمدت إلى تسعير المياه، الأمر الذي قلل من الفاقد المائي وعزز الاستخدام الأمثل.

ويوضح الباحث العراقي أن الزيادة في الفاقد المائي تعود لأسباب، منها طبيعي يتمثل بموقع العراق ضمن النطاق الصحراوي وشبه الصحراوي الذي ترتفع درجات الحرارة فيه فيزيد الفاقد بالتبخر، وآخر بشري تمثله السدود التركية والإيرانية، والسورية بدرجة أقل، على حوضي دجلة والفرات، إضافة إلى تردي الوضع الأمني وما نتج عنه من سيطرة الجماعات المسلحة على العديد من السدود، فضلاً عن السياسات المائية الحكومية الغير حكيمة والتي أدت دوراً كبيراً في إهدار الثروات الطبيعية.

إيران تدمر 8 أنهار عراقية

بالاستناد إلى إحصائيات موثّقة، يبيّن الباحث أحمد إبراهيم أن العراق سيفقد جزءاً كبيراً من موارده المائية بعد أن قلّ متوسط نهر الفرات السنوي الداخل إلى العراق من تركيا وسورية من 30 مليار متر مكعب عام 1933 إلى 9.5 مليارات متر مكعب في الوقت الحالي. يضيف إبراهيم أن "المتوسط السنوي لنهر دجلة القادم من تركيا سينخفض من 20.5 مليار متر مكعب إلى 9.7 مليارات متر مكعب، بعد اكتمال سد "أليسو" الذي أقامته تركيا على بعد 60 كلم من الحدود العراقية التركية، لافتاً إلى أن نسبة ما سيفقده العراق من النهرين ستصل إلى نحو 30.8 مليار متر مكعب.

أما التطور الأخطر، فهو ما قدمه الباحث في شؤون المياه أحمد إبراهيم، الذي تحدث لـ"العربي الجديد"، في وثيقة تتضمن 5 أنهار حدودية جافة بسبب السياسات المائية الإيرانية والتي حرمت عشرات القرى الحدودية العراقية من عصب الحياة، وأدت بالتالي إلى تغيير النظام الإيكولوجي للمناطق الحدودية، وحولتها إلى بيئة صحراوية، ما أدى إلى تهجير السكان من القرى إلى مراكز المدن بالرغم من كونهم لم يمتهنوا في حياتهم سوى الزراعة.

وتكشف الوثيقة عن جفاف أنهار كنجان جم، كلال بدرة، جنكيلات، الكرخة ونهر الخبين، فيما تعرضت أنهار الطيب ودويريج والكارون لصرف زراعي وصحي إيراني، أدى إلى تدميرها.

داعش تدمر مشاريع الري

ويلفت إبراهيم إلى أن الجفاف لم يقتصر في العراق على الأنهار فحسب، بل تعداه إلى العديد من المشاريع الإروائية المغذية للأراضي الزراعية، بعد سيطرة مسلحي تنظيم داعش في العام الماضي على سدة الفلوجة (غرب العراق)، ما أدى إلى جفاف مشاريع إروائية مهمة، منها الصقلاوية، وأبو غريب، والرضوانية، واللطيفية والإسكندري، منوهاً بأن هذه المجاميع المسلحة تنتهج سياسات مجهولة في الملف المائي، حيث تقوم بالإغراق تارة وتعمد إلى التجفيف تارة أخرى.
الموظف السابق في وزارة الموارد المائية العراقية، عواد نجم الحلي، يلقي بجزء غير قليل من مسؤولية تدهور الواقع المائي في العراق على عاتق الفساد الموجود في التعاقدات الحكومية الخاصة بإنشاء المشاريع الإروائية الجديدة وصيانة القديم منها.

الحلي قال لـ"العربي الجديد": "إصرار وزارة الموارد المائية على إحالة أغلب مشاريعها الى القطاع الخاص يثير حالة واسعة من الاستغراب والسخط بين الموظفين العاملين، لأنهم حرموا بسبب هذا الإجراء من حوافز ومخصصات تمنح لهم مقابل القيام بالأعمال الميدانية، فيما يفرض هذا التوجه بقاء آلاف المكائن والمعدات الضخمة في المخازن دون استعمال مع استمرار خزينة الوزارة بصرف مبالغ الصيانة والتصليح والإدامة لها وبأسعار تفوق الموجود في السوق المحلية".

ويكشف الحلي عن عقود أبرمتها وزارة الموارد المائية مع شركات محلية بمبالغ ضخمة جداً من أجل إجراء أعمال كري الأنهار وتنظيفها وإنشاء ممرات مائية جديدة في مناطق محيطة بالعاصمة، مشيراً إلى إن الإجراءات اللاحقة بيّنت أن معظم هذه الشركات ذات إمكانيات متواضعة جداً وغير مؤهلة للقيام بالأعمال الموكلة إليها.

الموظف الحكومي المتقاعد يكتفي بالإشارة إلى عقد أبرمته وزارة الموارد المائية في مطلع عام 2013 لتنظيف عدد من الأنهار وبلغت قيمته أكثر من 80 مليون دولار تم تقديمها إلى شركة محلية تفتقر إلى الإمكانات الفنية والبشرية التي تؤهلها للقيام بالمشروع، مبيّناً أن الوزارة مضت في تنفيذ العقد بالرغم من تسلّمها تعليمات واضحة من لجنة النزاهة نصت على عدم التعاقد مع هذه الشركة وأوصت بإحالة المشروع إلى شركة متخصصة ومعروفة في مجال المشاريع المائية.

النهوض بالواقع المائي

يرى المستشار الاقتصادي، عبد الصمد المشهداني، أن النهوض بالواقع المائي في العراق يسلتزم بالدرجة الأولى وجود جهد دبلوماسي قادرعلى إدارة مباحثات ناجحة مع دول الجوار المتشاطئة على نهري دجلة والفرات، وهي تركيا وسورية وإيران، وأن يتوصل إلى اتفاقية نهائية تحافظ على الحقوق المائية للعراق وفق مبدأ المنفعة المشتركة، موضحاً أهمية ممارسة العراق لكل طرق الضغط السلمي من أجل إيقاف هذه الدول عن الاستمرار في مشاريعها التي تعرّض أمنه المائي للخطر.
ويشير المشهداني إلى وجود عدد من المقترحات المقدمة إلى الحكومة العراقية من أجل التخفيف من أزمة المياه والتي بقيت حبيسة الرفوف والأدراج بسبب البيروقراطية وعدم الجدية، مستذكراً منها مشروع إنشاء قناة واصلة من نهر دجلة إلى الفرات، في الوسط، لغرض تعزيز الموقف المائي للأخير وعلى مدار السنة، بالإضافة إلى مشروع الاستفادة القصوى من كميات المياه التركية الكبيرة المستخدمة في توليد الكهرباء بالسدود، شمالاً، فضلاً عن العمل على مشروع متخصص ينظم الجريان في شط العرب، جنوباً، ويعالج مشكلة ارتداد مياه الخليج المالحة نحو شط العرب.

المستشار الاقتصادي الذي قدم عدة دراسات ومعالجات خارجية، يصنّف العراق على أنه من الدول التي تعاني جهلاً وأمية مفرطة في مجال التوعية والتعريف بأساليب الري الحديثة، إذ يعتمد إلى الآن وبنسبة 99% على الري السطحي، فيما تقل مساحات الأراضي المروية بالرش والتنقيط عن 1% بالرغم من العروض الكبيرة والتنافسية التي تقدمها الشركات المتخصصة بوسائل الري الحديثة من أجل التوسع بشكل أكبر في العراق، لافتاً إلى أن استمرار هذا الوضع يعني مواصلة الهدر.

ويحث المشهداني المسؤولين العراقيين على التحرك السريع باتجاه إنشاء عدد من السدود والبحيرات في مناطق مختلفة من العراق، قائلاً: "توجد مخططات أولية لها في وزارة الموارد المائية، وعليهم وضع قانون يحدد الحصص المائية للمحافظات العراقية التي تعيش واقعاً متبايناً في هذه الحصص"، مذكراً بعدم إهمال اي أجراء مهما بلغت بساطته، مثل الحرص على تبطين جداول وأنهار السقي بالإسمنت والتي من شأنها توفير كميات كبيرة من المياه في حالة الري السطحي.

المستشار المشهداني يذكّر بأن جزءاً كبيراً من مشكلة المؤسسات الحكومية في العراق هي نظرية المؤامرة والاستهداف السياسي التي تجعل كل نصيحة أو تحذير من مشكلة عامة، ومنها نقص المياه، تتم ترجمتها على أنها استهداف سياسي للوزير الذي ينتمي لهذا الحزب أو لتلك الطائفة، مشيراً إلى أن التحذيرات الخطيرة الصادرة من منظمة المياه الأوروبية بشأن جفاف نهر دجلة خلال أربعين سنة وتصريح منظمة اليونسيف عن تهديد حياة ملايين الأطفال للخطر بسبب الماء الملوث، لم تلاقِ آذاناً صاغية في بلد تُدار وزارة الماء فيه بحسب المحاصصة الطائفية.
دلالات