التلوث المائي العربي [2-1]... طعم الملح لا يفارق أفواه العراقيين في البصرة

08 سبتمبر 2018
مرضى بسبب تلوث المياه في البصرة (فرانس برس)
+ الخط -
استيقظ رب العائلة العراقي علي المنصوري فزعاً على صراخ طفله الثالث محمد من آلام حادة في بطنه، استدعت نقله بشكل سريع صبيحة الثلاثين من أغسطس/آب الماضي إلى مستشفى البصرة العام المستنفرة بعد امتلاء أسرتها، جراء انتشار الأمراض الناتجة عن تلوث مياه الشرب في المحافظة، إذ بلغت أعداد المصابين بالإسهال المائي ثلاثة عشر ألف حالة، بينما عانى خمسة آلاف مصاب من أمراض الجهاز الهضمي والمغص المعوي الحاد وحالات القيء الشديد، منذ مطلع شهر يوليو/تموز 2018 وحتى 26 أغسطس/آب الماضي، وفق إفادة كل من علاء الهاشم مدير إعلام صحة البصرة والدكتور رياض عبد الأمير مدير صحة البصرة، واللذين لفتا إلى أن تلك الحالات منتشرة في المحافظة، وتحديداً في المناطق التي تستخدم مياه شط العرب، "المتكون من التقاء نهري دجلة والفرات فـي منطقة القرنه (56 كم شمال البصرة) بعدما تملَّح وتزايدت نسبة الملوثات فيه نتيجة قلة المتساقطات (الأمطار) وانخفاض الواردات المائية من خارج العراق (الدول المتشاطئة للعراق في حوضي دجلة والفرات) وقطع إيران مياه نهـر الكارون (المصدر الأساسي لمد شط العرب بالمياه العذبة كان يغذيه بمعدل 200 متر مكعب في الثانية) وتحويـل مجـراه الـى داخـل أراضيها"، وفق ما جاء في دراسة "تملح مياه شط العرب..الواقع والمعالجات الممكنة" والتي أعدتها المهندسة شذى كاظم خلف والمهندس جبار عبد زايد وأصدرها قسم مراقبة وتقييم نوعية المياه في وزارة البيئة العراقية في سبتمبر/أيلول من عام 2009.



موارد البصرة المائية

تعتمد محافظة البصرة على موردين مائيين، أولهما مياه نهر دجلة التي تمرُّ عبر محافظات عراقية مختلفة، حيث يجري استهلاك جزء كبير منها، ويصب نهر دجلة في شط العرب الذي يروي سكان الجانب الشرقي لمركز المحافظة والتجمعات السكنية على جانبي الشط، وثانيهما مياه قناة البدعة التي كانت تغذي المحافظة بـ15 متراً مكعباً في الثانية، إلا أنها الآن أصبحت تزود البصرة بـ 7.5 أمتار مكعبة في الثانية، ما يشكل نصف الكمية التي كانت عليها قبل عشرين عاماً في الوقت الذي تضاعف عدد سكان المحافظة ليصل إلى 3 ملايين نسمة، إلى جانب الوافدين إليها من النازحين وغيرهم، والذين تتزايد حاجتهم من مياه الشرب والاستخدامات المنزلية، حسبما يقول ظافر عبدالله مستشار وزارة الموارد المائية.



أسباب التلوث

أضحى ماء شط العرب ساماً كما يجزم بذلك المختص في التلوث البيئي بجامعة البصرة الدكتور شكري الحسن، والذي يدعو إلى إعلان البصرة منطقة منكوبة بيئياً، مرجحاً ثلاثة أسباب تقف وراء تلوث مياه الشرب في المحافظة، الأول يتعلق بارتفاع نسبة التلوث الجرثومي والتي وصلت إلى 50% في مياه الإسالة القادمة من محطات التنقية والتعقيم، وفق ما أعلنته شعبة الرقابة الصحية في دائرة صحة البصرة في آب الماضي، وهو ما تؤيده دراسة وزارة البيئة العراقية، التي حذرت قبل تسعة أعوام، من تزايد ملوحة مياه شط العرب ما أدى الى تدهور الوضع البيئي في محافظة البصرة نتيجة ارتفاع تراكيز الأملاح الصلبة الذائبة الكلية TDS والملوحة Salinity إلى أضعاف ما كانت عليه سابقاً، الأمر الذي أثر سلباً على التنوع الأحيائي في المنطقة، وأدى إلى حصول خلل في النظم البيئية الطبيعية حيث لوحظ تواجد أحياء بحرية في مياه شط العرب الداخلية (ميناء المعقل) بصورة لم تحدث سابقاً، بالإضافة الى تردي نوعية مياه الشرب المجهزة بسبب ارتفاع الأملاح لبعض مشاريع الإسالة مثل (البراضعية، الجبيلة، الرباط ومجمع الأرصفة) وهنا يضيف الدكتور الحسن قائلاً أنه بسبب ملوحة المياه وركودها وتلوثها ظهر نوع من الطحالب السامة في البيئة المائية لشط العرب مجهرية وحيدة الخلية وهائمات نباتية (عوالق) وهو ما يُعرف بظاهرة المد الأحمر أو الازدهار الطحلبي التي تفرز مادة سامة داخل المياه، إذ تساعد وفرة المغذيات العضوية، وركود المياه، وازدياد الملوحة، والارتفاع الشديد في درجات الحرارة على انتشارها وتسربها إلى محطات التصفية الحكومية، حتى وصلت إلى المستفيدين من شبكات المياه، وسببت تلك الحالات.

وبلغ التلوث الكيميائي في مياه الإسالة 100%، وفق ما أعلنته دائرة صحة البصرة وتحدد دراسة وزارة البيئة العراقية 12 سبباً لذلك التلوث، من بينها مخلفات محطات توليد الطاقـة الكهربائيـة العراقية والتلوث الناتج عن بعض المطروحات النفطية لمصفاة عبادان في الجانـب الإيرانـي لشط العرب وعمليات التهريب للمواد النفطية ومشتقاتها غير الخاضعة لأي مقاييس علمية أو تعليمات، وما ينتج عنها من مخالفات بيئية وغرق عدد من السفن المحملة بالنفط جراء العمليات العسكرية وعدم مطابقة الكثير من السفن المحملة بالنفط إلى شروط السلامة والمتانة والأمان وطرح مياه الموازنة من قبل الناقلات النفطية ضمن حدود مياهنا الإقليمية، وبعيـداً عـن أعين الرقابة، وإضافة إلى الأسباب السابقة، يضيف الأكاديمي الحسن، مياه الصرف الزراعي التي تحمل بقايا أسمدة كيميائية.

وتسببت الملوثات السابقة في نفوق ملايين الإصبعيات (الزريعة) السمكية كما تسببت المياه المالحة بموت ما بين 5 رؤوس إلى 7 رؤوس ماشية يومياً، كما يقول علاء البدران نقيب المهندسين الزراعيين في البصرة.



توقف التعقيم رغم ارتفاع نسبة الملوثات

تكشف وثيقة رسمية حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، أن نسب مادة الكلور المستخدمة في تعقيم وتطهير المياه في 17 محطة تنقية من بين 55 محطة تناولتها الوثيقة بلغت صفراً في الوقت الذي ينبغي أن تصل النسبة إلى 0.5 ppm بمعنى أن يصل تركيز الكلور في الماء إلى 250 مليغرام لكل لتر، بحسب الوثيقة الصادرة في 23 آب الماضي والموجهة من قسم الصحة العامة التابع لدائرة صحة البصرة إلى مكتب محافظ البصرة.

توقف عمليات التعقيم أكده لـ"العربي الجديد" صلاح عيال مدير إعلام دائرة ماء البصرة، والذي يبرر توقف التعقيم في بعض المحطات التي تتلقى المياه من شط العرب كمشروع البراضعية بسبب تلوث أحواضها، وبالتالي لا فائدة من استمرار عمليات التعقيم كما يقول.



مسؤولية الحكومة

يحصر المحامي والخبير القانوني جمال الأسدي عدة مواد دستورية خالفتها الحكومة العراقية في أزمة تلوث مياه البصرة، إذ أنها مسؤولة بحسب البند الثامن من المادة 110 عن تخطيط السياسات المتعلقة بمصادر المياه من خارج العراق، وضمان مناسيب تدفق المياه، ويقول الأسدي إن ما جرى يخالف بشكل واضح نص الفقرة الثانية من المادة 33 من الدستور العراقي التي تنص على أن "الدولة عليها أن تكفل حماية البيئة والتنوع الأحيائي والحفاظ عليهما"، كما يخالف المادة 31، التي تنص على أن "تعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج".

وحسبما يرى الأسدي، يمكن مقاضاة رئيس الحكومة العراقية وكل المسؤولين عن تلك الأزمة، قائلاً "نصت المادة 340 من قانون العقوبات المرقم 111 لسنة 1969 بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس، لكل موظف أو مكلف بخدمة عامة أحدث عمداً ضرراً بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل فيها، أو يتصل بها بحكم وظيفته، أو بأموال الأشخاص المعهود بها إليه"، مبدياً آماله في أن يسعى المواطن العراقي إلى المطالبة بحقه عبر الدعوة إلى تطبيق بنود الدستور، ومقاضاة المقصرين.



تبادل الاتهامات

بعد عام 2003 تفاقمت معاناة أهالي البصرة، جراء أزمة شح المياه وارتفاع نسبة الملوحة بحسب إفادة النائب البرلماني عن محافظة البصرة فالح الخزعلي والذي قال لـ"العربي الجديد": "شح مياه الشرب ترافق مع تأخر إنجاز مشروع ماء البصرة الكبير والذي كان من المؤمل تنفيذه من قبل شركة (OTV) الفرنسية وشركة (Hitachi) اليابانية وشركة المقاولون العرب المصرية، بطاقة إنتاج تبلغ 666 ألف متر مكعب يومياً، وهو ما يكفي لسد جزء كبير من حاجة المدينة، "لكن التظاهرات الشعبية المطالبة بتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل التي شهدتها البصرة مؤخراً أسهمت بانسحاب العاملين الأجانب من المشروع"، وهو ما يراه مفيد لعيبي أحد قياديي تنسيقية تظاهرات البصرة بـ"النكتة المضحكة"، قائلاً "التظاهرات لم تقترب من المشاريع الخدمية أو تهدد وجود الشركات الأجنبية العاملة في المحافظة، بل العكس فالمتظاهرون مستعدون للعمل بشكل طوعي لإنجاز المشاريع المتوقفة وهم يتظاهرون من أجل إكمالها".

وفي الوقت الذي تشهد فيه مستشفيات البصرة استنفاراً استثنائياً بسبب ارتفاع أعداد المصابين جراء التلوث المائي، وسط مخاوف المعنيين بالوضع الصحي والانساني في المدينة من وقوع كارثة بيئية وصحية، إذ أعلنت دائرة صحة البصرة أن 2600 من المرضى مصابون بأعراض تشبه تلك التي تسببها الكوليرا، رأى ظافر عبد الله مستشار وزارة الموارد المائية أن وزارته اتخذت حلولاً عدة منها قرار زيادة نسبة الإطلاقات المائية من نهر دجلة باتجاه شط العرب، لكن المشكلة حسبما يقول المستشار الحكومي تكمن في سوء التوزيع الذي هو من مسؤولية وزارة البلديات، وهو ما رد عليه المهندس ميثم جار الله صابون المعاون الفني لمدير دائرة البلدية في البصرة، محملاً تقادم شبكات المجاري سبب ما حدث وملقياً بالكرة إلى وزارة البيئة قائلاً "جزء كبير من التلوث حصل نتيجة وصول مياه الصرف الصحي والصناعي في الجهتين الشرقية والغربية إلى شط العرب، وهذا بحد ذاته شكل خللاً بيئياً كبيراً".
دلالات