شواطئ لبنان المنهوبة... الاعتداء على الأملاك البحرية استثمار مربح

14 فبراير 2017
1200 تعدٍّ على الأملاك البحرية العامة في لبنان(العربي الجديد)
+ الخط -
يصف محمد أيوب، رئيس جمعية "نحن" المعنية بحماية الأملاك العامة في لبنان، سياسة الدولة تجاه الأملاك العامة البحرية بـ"الاستثناء المفتوح"، والذي سمح لعشرات النافذين من سياسيين ومستثمرين بـ"وضع اليد" على أجزاء من الأملاك العامة البحرية وتحويلها إلى ملك خاص.

ويؤكد أيوب أن هذه العملية يتخللها "اختلاق عقارات وهمية على الشاطئ أو داخل البحر عبر رسمها على الخرائط الورقية، ثم مصادقة مُختلف إدارات الدولة المحلية والعامة عليها، مع منحها شروط استثمار خيالية خارج نطاق القانون". ولا يكتفي المستثمرون بهذه المخالفات، كما يقول أيوب، قبل أن يتابع: "إنهم يعمدون إلى تجاوز المساحات والارتفاعات المحددة في عوامل الاستثمار"، الأمر الذي كشف عنه الإعلان عن مرسوم "سري" تم إقراره عام 1989 يحمل الرقم 169، دون نشره في الجريدة الرسمية، لظروف الحرب الأهلية وعدم انتظام المؤسسات الدستورية في البلاد.

وينص المرسوم على "إسقاط مرسوم سابق (رقم 4918) يفرض على مالكي أنواع محددة من العقارات الخاصة (تشملها تلك الملاصقة للشواطئ) التخلّي عن ملكية 25 في المائة من مساحة عقاراتهم لتكون ملكاً عاماً لبلدية بيروت، في حال أرادوا الحصول على ترخيص لإقامة إنشاءات فيها".


مئات الملايين من الدولارات

فتح المرسوم السري الباب أمام إنشاء أول مجمع سياحي بحري خاص على شاطئ البحر في بيروت، بعد أن كانت التعديات محدودة وصغيرة الحجم طوال عقود خلت، كما يوضح أيوب، والذي أكد إحصاء 1200 تعدٍّ من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوبه، وفقا لدراسة صادرة عن وزارة الأشغال العامة والنقل أصدرتها عام 2012.

واستعرضت الدراسة أنواع التعديات التي جاءت على شكل منتجعات سياحية ومسابح ومقاهٍ وبعض الفلل الخاصة المزودة بمراسٍ. ويبلغ مجموع مساحة التعديات حوالي مليونين و900 ألف متر مربع من العقارات، مع العلم أن سعر العقارات المطلة على الواجهة البحرية لبيروت مرتفع جداً.


ويعرض أيوب مواقع رئيسية تشهد أعمال بناء واسعة تُهدد البيئة والاقتصاد والآثار على الشاطئ، من بينها ما جرى في بلدة عدلون الشاطئية جنوبي البلاد، التي تشهد ورشة لإنشاء "مرفأ سياحي". ويشير أيوب الذي يقضي جل وقته في متابعة التعديات على الشواطئ اللبنانية إلى "استمرار أعمال البناء رغم وجود قرار من مجلس شورى الدولة بوقفها بسبب مخالفة وزارة الأشغال لشروط إجراء مناقصات توزيع أعمال الحفر والإنشاءات على شركات خاصة"، إلى جانب "إصدار وزيري البيئة والسياحة لكتابين يطالبان بوقف الأعمال بسبب وجود آثار على الشاطئ، وبسبب الطبيعة الدقيقة للتنوع الإيكولوجي فيها"، الأمر الذي كان يتطلب تدخل وزارة الأشغال العامة من أجل وقف التعديات، وهو ما سعى معد التحقيق للتواصل مع وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني، غازي زعيتر، من أجل معرفة أسباب تجاهل التدخل، غير أن الوزير لم يرد على العديد من محاولات التواصل عبر الهاتف ومن خلال مكتبه.

ووفقاً لما وثقه معد التحقيق، تعاني بلدتي كفر عبيدا وأنفة في الشمال من خطر التعدي على الأملاك العامة البحرية من خلال إنشاء منتجعات سياحية ضخمة. وحصلت "العربي الجديد" على وثائق تثبت نجاح عائلة لبنانية في إثبات "وجود عقار خاص مساحته حوالي 30 ألف متر مربع غمرته مياه البحر في مدينة ساحلية شمال لبنان". ويصف أيوب الواقعة بـ"خلق مستثمرين لعقار وهمي تحت ذريعة تعرضه للغمر، ثم تعديل قانون الاستثمار الخاص بهذه المنطقة، واستصدار مستندات رسمية لبدء عملية ردم البحر واستثمار العقار".

ضغوط شعبية وقانونية

في العاصمة بيروت، نجحت الضغوط الشعبية والقانونية في تعليق تنفيذ مشروع هندسي ضخم ملاصق لصخرة الروشة الشهيرة، ويهدف إلى تحويل "دالية الروشة" إلى منتجع سياحي، رغم أن المنطقة "مؤهلة لتصنف كمحمية بسبب إثبات إقامة الإنسان القديم في مغاورها قبل الميلاد، وزيارة حيوانات وطيور نادرة الانتشار على الشواطئ اللبنانية لهذه المغاور"، بحسب أيوب.

ويقع أحدث تعدّ واسع على شاطئ الرملة البيضاء في بيروت، والذي يسعى مستثمر إلى تحويل جزء واسع منه إلى منتجع. ويؤكد أيوب أن المستثمر نجح في استصدار مرسومين جمهوريين "سمحا بتعديل فاضح في عوامل الاستثمار على الشاطئ". وأهم هذه التعديلات: "تقليص مساحة تراجع العقارات من 25 متراً على الأقل (مسافة الحفاظ على وحدة الشاطئ) إلى مترين فقط، والسماح له بتجاوز الارتفاع الأعلى للعقار ارتفاع الكورنيش البحري، ما يعني حجب رؤية الشاطئ عن المواطنين". وأظهرت صور نشرها ناشطون شفط كميات غير محددة من رمل الشاطئ ونقلها إلى أحد معامل الترابة جنوبي بيروت. كما يؤكد أيوب أن المستثمر "لم يحصل على موافقة وزارة الأشغال لبدء أعمال البناء بحسب ما أكده له مصدر في الوزارة"، لافتا إلى طلب الوزارة من مركز الشرطة في المنطقة وقف جميع الإنشاءات، وهو ما لم يتم.

ويرجع الناشطون اللبنانيون التعديات إلى تجاوز المستثمرين، بالتواطؤ مع مسؤولين رسميين، لـ"المخطط التوجيهي لترتيب الأراضي اللبنانية" الذي صدقه مجلس الوزراء عام 2009 دون إصدار مراسيم تنفيذية له. وهو ما عطل تطبيقه، وسمح للبلديات وللتنظيم المدني بإصدار تراخيص استثمار لعقارات مصنفة كملك عام.


تزوير واسع

يؤكد المدير التنفيذي لـ"المفكرة القانونية"، المحامي نزار صاغية، وقوع عمليات تزوير واسعة في دوائر السجل العقاري، "سمحت بشطب إشارات منع البناء أو الاستثمار عن عقارات مصنفة أملاك عامة بحرية". وفي ظل "ترهل سلطة الدولة اللبنانية وضعف المقاومة الشعبية الفعلية وسّع أصحاب النفوذ سيطرتهم على الساحل اللبناني دون مراعاة للحق العام ولحقوق المواطنين الاقتصادية والبيئية" كما يقول.

ويشير المحامي اللبناني إلى "حالة تضخم ضربت حقوقاً مكتسبة بسيطة منحتها السلطات لعقارات فردية كانت مملوكة قبل عام 1925". وهو تاريخ إقرار القانون الوحيد المتعلق بتنظيم الأملاك العمومية البحرية خلال فترة الانتداب الفرنسي للبنان. ويؤكد صاغية أن "وزارة الأشغال العامة والنقل هي المسؤولة الأولى عن حماية الأملاك العامة، ولم ينجح الوزير الحالي في رفع أي من الاعتداءات القائمة، كما لم تحم الكتب التي أرسلها الأملاك العامة في الرملة البيضاء". ويُحذر صاغية من أن تشكيل الحكومة الحالي وفق محاصصة سياسية "يمنع وزارة الأشغال من تنفيذ وظيفتها في حماية الأملاك العامة".

ويقدم الحقوقيون اللبنانيون نموذج "دالية الروشة" كخطوة نجاح أولى في مسار وقف التعدي على الأملاك العامة البحرية، وذلك بعد استجابة بلدية بيروت للدعوى التي قدمها ناشطون "لإلزام البلدية تنفيذ مهمتها بحماية الأملاك العامة"، وتقديم محامي البلدية لمراجعة قانونية متطابقة من مطالب الناشطين، بحسب صاغية. ويأمل المحامي أن "يُشكل إلزام الإدارة الرسمية المعنية بالدفاع عن الملكية العامة، مقدمة لقبول المحاكم اللبنانية بصفة المصلحة للجمعيات والناشطين البيئيين الذي يدافعون عن الأملاك العامة البحرية، وإبطال المرسوم 169 بشكل نهائي".


البيئة ليست في الحسبان

لا تأخذ كافة المشاريع المُشيدة على الأملاك العامة البحرية في لبنان بعين الاعتبار الأثر البيئي، بحسب ناجي قديح الخبير البيئي في موقع "غرين ايريا" المتخصص، والذي يشير إلى أن "الشواطئ اللبنانية الصخرية والرملية تشكل مورداً بيئياً مهماً بسبب التنوع الحيوي فيها، ولأنها موئل لتكاثر الأحياء البحرية. إلى جانب قيمتها الجمالية، وما تحتويه من آثار فينيقية ورومانية وإسلامية".

ومن المفترض أن تحمي مجموعة قوانين محلية واتفاقيات دولية وقّع عليها لبنان البيئة البحرية من مُختلف أنواع التعديات، "لكن تشجيع الدولة للاستثمارات على الواجهة البحرية أفقدها قيمتها البيئية وطبيعتها كحق عام وحولها لعقارات بميزات استثمارية مغرية مادياً لمجموعة من الفاسدين"، بحسب الخبير البيئي.

ومن هذا المنطلق كان تحويل الشاطئ في منطقتي برج حمود والكوستا برافا شمالي وجنوبي بيروت إلى "مطامر صحية للنفايات"، يصفها قديح بأنها "مكبات" لأن "91 في المائة من النفايات التي تكدس فيها لا تخضع لأي عملية فرز". كما يظهر وبالعين المجردة تسرب "عصارة النفايات" الأكثر سمية من مياه المجاري إلى مياه البحر المتوسط بشكل مباشر.

ومع تواصل حملات الاحتجاج الشعبي ضد التعديات، تم استدعاء عشرات الناشطين للتحقيق معهم على خلفية المشاركة في التحركات. وعكس مشهد وقوف مئات عناصر مكافحة الشغب لحماية ورش التعديات على الأملاك العامة نظرة الدولة إلى المستثمرين، وإلى المواطنين المطالبين بحماية الحق العام، بعد ارتفاع عدد الاعتداءات على الأملاك العامة والبحرية وتضخم حجمها خلال العقود الماضية، في حين تحرص الشرطة البلدية وتلك التابعة لوزارة الداخلية، على قمع أي "احتلال" للكورنيش البحري في بيروت من قبل الباعة المتجولين في مفارقة واضحة.