مذبحة "رابعة": العثور على الجثة أمل الأهالي

20 يونيو 2014
مذبحة "رابعة العدوية" خلفت ضحايا ومعتقلين ومفقودين(getty)
+ الخط -
"لا أثر يدل على الجثمان، ولا سجلات تدل على وفاتهم"، هكذا أصبح حال أسر مفقودي مذبحتي رابعة العدوية والنهضة في رحلة بحث عن ذويهم لا تنتهي منذ الرابع عشر من أغسطس/آب 2013 وحتى الآن، بدأت بمسجد الإيمان، حيث تجمعت الجثث عشية المجزرة، ثم في المستشفيات وأقسام الشرطة، وحتى تحاليل DNA، لم تحقق أملهم في احتضان جثة حتى ولو كانت محترقة غير واضحة المعالم.


بينما كانت تشير عقارب الساعة إلى السابعة صباح يوم الأربعاء، الرابع عشر من أغسطس/آب عام 2013، كان الطالب في كلية الهندسة عمر محمد علي، برفقة شقيقته الكبرى مريم، في طريقهما إلى جامعة الأزهر الواقعة بالقرب من ميدان رابعة العدوية، مقر اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول في انقلاب الثالث من يوليو/تموز من العام نفسه.

"بروفة" حفلة غنائية في مستهل العام الدراسي، كانت الدافع الرئيس لزيارة عمر الشهير بـ"كانو" لجامعته، فـ"عمر" مغني راب هاوٍ منتمٍ لحزب "غد الثورة"، له العديد من المقاطع الغنائية على قناته الخاصة في موقع "يوتيوب". 

هرج ومرج، وأصوات طلقات نارية متواصلة تجاه ميدان رابعة، الذي بدأت بالفعل عملية فضّ اعتصامه برصاص الجيش والشرطة. فقرر عمر ومريم أن يغيرا مسارهما من الجامعة إلى ميدان رابعة، ولكن سرعان ما فقد الشقيقان التواصل.

مريم تروي لحظات حياتها الأصعب بين الجثث والمصابين في الميدان، ومحاولاتها المضنية لأن تجد شقيقها على قيد الحياة، ولكنها لم تعثر عليه، وفي حين قال زملاء لعمر، إنهم رأوه متحفظا عليه في مدرعة تابعة للجيش، نفى آخرون صحة هذه الرواية.

رحلة بحث بدأتها عائلة عمر، عنه، عقب فض الاعتصام في المستشفيات الحكومية والخاصة، فلم يجدوه، وكذلك كانت النتيجة في مشرحة زينهم، فلجأوا إلى تحليل البصمة الوراثية DNA لعلهم يجدونه بين الجثث التي أُحرقت، ولكن النتيجة كانت سلبية.

رحلة البحث انتقلت من المقابر والمشارح إلى السجون الحربية والمدنية، ولكن أهل عمر وجدوا تعنتاً من الجيش والشرطة في تقديم ما يثبت أو ينفى وجود ابنهم لديهما حتى الآن.


المفقودون بين 200 و500

لم يكن عمر وحده الذي كان في عداد المفقودين، ولكن هناك المئات الذين اختفوا منذ الثالث من يوليو الماضي عقب عزل الجيش الرئيس محمد مرسي.

تقارير صدرت من منظمات حقوقية كالعفو الدولية، وهيومان رايتس مونيتور، والنديم، والكرامة، أكدوا فيها أن مفقودين يتراوح عددهم بين المائتين والخمسمائة، تنوعت حالتهم بين اعتقال، وإخفاء قسري، وآخرين قضوا نحبهم في عمليات قتل بشعة شهدتها ساحات الاعتصامات.

من خلال البحث كانت قصص المفقودين تختتم بنهايات أربع، إما أن يكون ذلك المفقود قد قتل وتشوهت جثته، واستطاع أهله الوصول إليها عبر تحليل البصمة الوراثية DNA، أو لا يجدونه بذات التحليل بسبب تشوه الجثة بشكل يصعب استخلاص البصمة الوراثية منها، ومن ثم تدفن في مقابر تابعة للدولة، أو أن هؤلاء المفقودين قد قتلوا أثناء عملية فضّ الاعتصام، ثم دفنوا بمعرفة رجال الشرطة والجيش، وأخيرا أن يكون المفقود قد اعتقل ولا يزال رهن احتجاز في مقر أمني سري.

عمر محمد علي - محمد خضر - مصطفى المعداوي 

نهاية معلومة

مصطفى المعداوي، مهندس كمبيوتر، أحد ضحايا مجزرة فض اعتصام "رابعة"، علم شقيقه محمد، بمقتله، فبدأ رحلة البحث عن الجثة المفقودة.

محمد في شهادته، قال إنه نجح في الوصول إلى محيط ميدان رابعة في التاسعة مساء يوم فض الاعتصام، وأنه بعد محاولات استطاع الدخول إلى الباحة الخلفية لمسجد رابعة، فرأى أكثر من مائة جثة محترقة كليا وجزئيا، لم يستطع أن يميز أخاه بينها لتشوه هذه الجثث بشدة.

واصل محمد بحثه عن أخيه في مسجد الإيمان، الذي نقلت إليه عشرات الجثث، ثم انتقل إلى المستشفيات التي يُتوقع نقل المصابين والقتلى إليها، فلم يجد جثمان أخيه. ثم عاود في صباح اليوم التالي البحث في مسجد رابعة، والذي قد تحول إلى رماد، وكان لايزال في أروقته عدد من الجثث المكتملة والمبتورة، التي أكلتها النار، وأخرى لم تأكلها النار بعد.

محمد أكمل مهمة البحث عن جثة شقيقه مصطفى في مشرحة زينهم، ولكن محاولته باءت بالفشل. وفي هذه الأثناء وصلت إليه معلومة من أصدقاء مقربين تفيد بأن جرافات عملاقة تابعة للشرطة والجيش نقلت مساء يوم فض الاعتصام عشرات من الجثث، وأن هذه الجثث قد دفنت بمقر للشرطة على طريق القاهرة – السويس.

صديق لمحمد، قرر أن يتأكد من صحة المعلومة، فذهب إلى هذا المقر الشرطي الواقع عند الكيلو 21، فأوقفته القوة الأمنية التي تقوم بحراسة المقر التابع لإدارة التدريب في وزارة الداخلية، وهددوه قائلين له:"إياك تيجي هنا تاني، الجثث اندفنت خلاص"
.

استمرت رحلة البحث، وأجرى أهل مصطفى تحليلا للبصمة الوراثية تعرفوا من خلالها في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على جثته التي كانت في حالة تشوه كاملة.

أمل يدعى  DNA

نجاح تحليل البصمة الوراثية DNA كان باب أمل لأهالي كثير من المفقودين، رغم الصعوبات التي لاقوها، بدءًا من الروتين الحكومي، ومرروا بالتعسف تجاههم نتيجة شيطنة وسائل الإعلام للمعتصمين برابعة، وانتهاء بصعوبات فنية في استخلاص عينات البصمة الوراثية من جثث القتلى، خصوصا التي تعاني تشوها وحروقا شديدة.

هذه الأزمة الفنية ربما كانت الأصعب على الإطلاق بحسب ما أكده طبيب يعمل في مصلحة الطب الشرعي -رفض ذكر اسمه- مشيرا  إلى أن معظم الجثث التي قتلت في فض اعتصام رابعة، ونقلت فيما بعد إلى المشرحة، كانت قد تعرضت لتشوه شديد نتيجة حرق المستشفى الميداني. 

وأوضح أن عملية تحليل هذه الجثث كانت صعبة للغاية نتيجة هذا التشوه، فمن المعروف لدى أطباء مصلحة الطب الشرعي، أن عملية أخذ عينات البصمة الوراثية من الجثث تمر بمراحل متعددة ويتحكم في ذلك حالة الجثة.

فإن كانت الجثة سليمة، ولم يفت على وفاة الشخص 3 أو 4 أيام كحد أقصى، فيسهل أخذ عينة منها، أما إذا دخلت الجثة مرحلة التعفن، أو كانت الجثة قد تعرضت لتشويه، فيضطرون لأخذ عينات من العضلات، وإذا كانت الجثة مر عليها وقت أطول فيلجأون إلى العظام، أما في حالات التشوه الشديد الناتج عن الحرق فيصعب استخلاص الحمض النووي، مؤكدا أنه واجه كثيرا من تلك الحالات جاءت من رابعة متفحمة تماما، وربما يزيد عددها على 40 جثة، دفنت كلها في يناير/كانون الثاني الفائت في مقابر محافظة القاهرة من دون معرفة أصحابها.


حسن.. جثة تشوهت

من هؤلاء الضحايا الذين عثر عليهم ذويهم من خلال تحليل DNA، الشاب حسن البنا عيد، وهو أحد الذين نقلت وسائل الإعلام مشهدا له في كفنه عقب مقتله برصاصة أثناء مذبحة فض اعتصام رابعة، ولكن أهله فشلوا في العثور على جثته.

دورة البحث عن جثة حسن كغيرها من دورات البحث عن آخرين، بدءا من مسجد الإيمان، ثم المستشفيات المحيطة بـ"رابعة"، وانتهاء بمشرحة زينهم.

"حسن البنا" الطالب في كلية الهندسة، أجمعت الروايات أنه نقل إلى المستشفى الميداني في مسجد رابعة العدوية، وهي التي أحرقت فيما بعد بمن فيها من جثث ومصابين، بحسب ما أكده شهود عيان وتقارير حقوقية.

وبعد عناء استمر ثلاثة أشهر، في منتصف أكتوبر الماضي، وعقب إجراء أسرة حسن، تحليل البصمة الوراثية تعرفت إلى جثته التي تشوهت تماما نتيجة الحرق.

مقبرة جماعية

على النقيض كانت قصة محمد خضر، الطالب في كلية الهندسة جامعة المنوفية والمقيم في بورسعيد، إذ قال شهود عيان إنه قتل، ولكن لا أثر لجثته، رغم إجراء أسرته تحليل DNA.
والدة محمد، قالت إنها بدأت رحلة البحث في المستشفيات، ثم المشارح، وأجرت تحليلا للبصمة الوراثية، ولكن نتيجة التحليل لم تثبت نسب أي من الجثث الموجود في المشرحة لنجلها محمد.

أسرة محمد في محاولة منها للبحث عن نجلها، دشنت حملة بعنوان "حملة محمد خضر، للبحث عن المفقودين"، وبعد أقل من أسبوعين من إطلاق الحملة ألقت قوات شرطية في الخامس والعشرين من يناير الماضي القبض على والد محمد وشقيقه بتهم الانتماء إلى جماعة الإخوان، والتظاهر من دون ترخيص، والتحريض على العنف. بينما محمد لايزال مفقودا.
 
والدة محمد خضر، قالت إنها توصلت إلى معلومة غير مؤكدة تفيد بوجود مقبرة جماعية في مقر شُرطيّ على طريق القاهرة-السويس، معلومة تأكد شقيق القتيل مصطفى المعداوي من صدقيتها.

وبتتبع هذه المعلومة التي تكررت، فكان مصدرها الإعلامي بشبكة الجزيرة الإخبارية أحمد منصور، والتي ذكرها في لقاء تلفزيوني له استضاف فيه المستشار وليد شرابي المدير الإقليمي لمنظمة "هيومان رايتس مونيتور" الحقوقية، منتصف يناير الماضي، ناسبا إياها لصحيفة "ميدل إيست مونيتور" البريطانية.


الصحيفة البريطانية، بدورها نفت في تغريدة لها على تويتر، ما قاله منصور نقلا عنها، قائلة: "إن ميدل إيست مونيتور ليست مصدر معلومة المقابر الجماعية لضحايا فض رابعة، ولكنها لا تستبعد وقوع هذه الجريمة".

وبعد شهرين تقريبا مما قاله منصور، وتحديدا في الخامس من مارس/آذار، وفي تعقيب لها على تقرير تقصي الحقائق حول مجزرة فض رابعة العدوية الصادر من المجلس القومي لحقوق الإنسان، أشار تقرير لمنظمة "هيومان رايتس مونيتور" الحقوقية إلى وجود مقبرة جماعية لضحايا مجزرة رابعة في إحدى مقرات الشرطة، من دون أن يقدم أي تفصيلات.
وقالت المنظمة في تقريرها إن عناصر الشرطة والجيش، عقب سيطرتها على ميدان رابعة بالكامل، قاموا بإشعال النيران في الخيام حتى التي كانت تحوي مصابين ما أدى إلى قتل المصابين حرقا، وقاموا بإشعال النيران في المستشفى الميداني وإحراق عدد آخر من الجثث، ثم قاموا باعتقال 790 شخصا من بين الخارجين من الميدان. لم يعرف مصير بعضهم حتى الآن.

الباحثة بمؤسسة "هيومان رايتس مونيتور"، سلمى أشرف، قالت إن المؤسسة وثقت بالفعل 140 حالة اختفاء لمعتصمين، ومتظاهرين منذ الثالث من يوليو/تموز 2013، وأن هناك معتقلين في سجون ومقرات احتجاز سرية لا يعرف عنهم شيئا.

قالت سلمى أيضاً إن هناك توثيقا لشهادات من شهود عيان من الأهالي القريبين من اعتصام رابعة العدوية، وآخرين، أكدوا أن جرافات قامت بجرف الجثث من محيط الميدان، وأنها نقلت عبر سيارات نقل عملاقة تابعة للشرطة والجيش، وأنه غير معلوم إلى أين توجهت تلك السيارات.

حصر المفقودين

وطبقا لإحصائية أعدها موقع "ويكي ثورة" - موقع مستقل مهتم بحصر أعداد قتلى ومصابي ومعتقلي حكومات ما بعد ثورة يناير- قال إن عدد القتلى من المعتصمين في ميدان رابعة بلغ 924 مدنيا، منها 693 جثة معلومة الهوية ومعلومة المكان، و30 جثة لم يتم التعرف إليها نهائياً، تم دفنها يوم 6 يناير 2014  في مقابر تابعة محافظة القاهرة، و14 جثة محترقة بالكامل كانت مجهولة الهوية وتم التعرف إليها فيما بعد، عبر تحليل البصمة الوراثية، و142 جثة معلومة الهوية، ولاتزال غير معلومة المكان، وهو تقريبا العدد نفسه الذي أشارت إليه الباحثة في منظمة هيومان رايتس مونيتور سلمى أشرف.
 
الجناح الثاني للمعتصمين في "النهضة" كان له نصيب من قضية المفقودين، إذ قالت عضو في الفريق الإعلامي للاعتصام سمية حسن، إن فض الاعتصام في ميدان النهضة، وسط الجيزة، خلف 150 قتيلاً، وأنه لايزال هناك 20 مفقوداً لم يعثر عليهم حتى الآن.


أين المفقودون إذاً؟


ربما كانت مجزرة فض ميداني رابعة العدوية والنهضة بشعة، ولكن ما جرى بعدها ربما كان أكثر وحشية، فالجثث المحروقة والمبتورة، ومع افتراض صدقية ما قيل عن مقابر جماعية في مقرات شرطية، وعمليات إخفاء قسري للمصابين المعتقلين على خلفية الفض في سجون عسكرية -في ظل ما يتوفر من معلومات يؤكدها-، يشير إلى أن هناك انتهاكات إنسانية وحقوقية جسيمة مستمرة، وأن الكارثة ستظل مستمرة ما دام هناك "مفقودون" من دون قبر معلوم، أو سجن معلوم يؤكد أنهم معتقلون فيه.