قانون الإيجارات في لبنان...عامان من معاناة الأغنياء والفقراء

20 نوفمبر 2016
183 ألف عقد إيجار معنيّ بقانون الإيجارات الجديد(حسين بيضون)
+ الخط -

لجأ الثمانيني اللبناني أبو حسين إلى المحسنين من أجل توفير توفير قيمة تركيب جهاز تنظيم ضربات القلب، على الرغم من امتلاكه بناية قديمة في منطقة فردان الفخمة غرب بيروت، إذ يعاني عوزا وضيقا بعد أن حاول طوال سنوات التفاوض مع المستأجرين لزيادة بدل الإيجار بشكل رضائي دون تجاوب، بينما لجأ المستأجرون إلى القضاء للاعتراض على تطبيق القانون الجديد، في الوقت الذي لم تتمكن أم محمد التي تقطن في منطقة عائشة بكار الشعبية المجاورة لمنطقة فردان الفخمة، من مواجهة القانون بسبب فقرها، ما ضاعف من معاناة عائلتها التي توفي معيلها.

وتجاور منطقة عائشة بكار الشعبية منطقة فردان، التي تمددت المباني الحديثة إليها على حساب الأبنية الشعبية المتواضعة في المنطقة الأولى، وتتجاوز قيمة الشقة الصغيرة (مائة متر مربع أو أقل) في أيّ من أبراج فردان عتبة 250 ألف دولار أميركي، حسب أبو حسين، فيما تتنوع إقامة سكان منطقة عائشة بكار بين شقق بعقود إيجار قديمة وبين ملاك صغار بنى أجدادهم البنايات الصغيرة بالحجر الرملي كما تقول أم محمد.

ويعاني سكان المنطقتين بسبب واقع الإيجارات غير السليم في لبنان، بعد أن أصدر البرلمان اللبناني في مايو/أيار من عام 2014 قانون الإيجارات الجديد بهدف "التحرير التدريجي لعقود الإيجار، مع منح المستأجرين الذين يتقاضون رواتب أقل من ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور مساعدات من صندوق مالي"، وفقاً لنص القانون عند تأسيسه.

ويسعى المُشرّع اللبناني إلى تحرير 183 ألف عقد إيجار معني بالقانون (بحسب الأرقام المتطابقة للجنتي المستأجرين والمالكين)، على مدى 9 سنوات مع زيادة بدل الإيجار بنسبة مئوية ثابتة انطلاقاً من قيمة العقار الحالية، والتي تحددها لجنة تخمين من خبراء ينص القانون على تأسسيها أيضاً.


الأزمة من عمر الاستقلال

"تعود أزمة الإيجارات في لبنان إلى المراحل الأولى للهجرة الداخلية من البلدات اللبنانية إلى العاصمة بيروت للعمل والدراسة، بعد أن حرم الإنماء غير المتوازن مناطق واسعة من المرافق التي اقتصر وجودها على العاصمة بيروت"، وفي ظل غياب سياسة إسكان رسمية مُعتمدة، يُشير المحامي واصف الحركة الناشط الحقوقي وأحد مقدمي الطعن بالقانون الجديد، إلى سريان مجموعة قوانين إيجار استثنائية حكمت علاقة المالك بالمُستأجر طوال أربعة عقود منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى بدء انهيار الليرة اللبنانية في الثمانينيات.

ويصف الحركة في تصريحات لـ"العربي الجديد" انهيار الليرة اللبنانية بـ"أكبر صدمة ضربت علاقة المستأجر بالمالك، رغم أنها لم تكن الأولى أو الوحيدة"، وأدى انهيار الليرة في التسعينيات إلى تآكل قيمة بدلات الإيجار، "إذ أصبحت قيمة الإيجار الشهري للمسكن تساوي قيمة شراء "منقوشة زعتر"، وهي أرخص أنواع الفطور الصباحي في لبنان، يتناقل المالكون القدامى حكايات عن دفع بعض المستأجرين بدل الإيجار بكراتين البيض أو ربطات الخبز، مع لجوء بعضهم إلى استلام الإيجار بشكل سنوي ليكون الأمر منطقياً".

ويعود تاريخ تأسيس أول التجمعات المطلبية للدفاع عن حقوق المستأجرين إلى الستينيات بعد توالي فرض الزيادات على بدل الإيجار، ولكنها كانت زيادات بسيطة في ظل استقرار اقتصادي واجتماعي، "مع اكتساب المُستأجر لمجموعة حقوق كالتعويض وثبات المسكن بسبب طول فترة عقود الإيجار"، بحسب الحركة. وحوّل مرور السنوات الخلافات حول العقارات من خلاف بين مالك واحد ومستأجر واحد إلى خلافات واسعة بين الورثة من الطرفين.

ويشير المنسق العام للجان المستأجرين، ورئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين، كاسترو عبد الله، إلى أن "الدولة اللبنانية تعمدت إلقاء مشكلة الإيجارات في لبنان بين المستأجر والمالك ولم تبادر إلى حلها". ويرصد عبد الله في حديثه لـ"العربي الجديد" ثلاث مراحل من التعامل الرسمي مع ملف عقود الإيجار، قائلا: "تم تعديل بدلات الإيجار صعوداً ونزولاً بحسب الأوضاع الاقتصادية خلال أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى ربط زيادة بدلات الإيجارات بالتزامن مع إقرار زيادات على الأجور في التسعينيات، إلى أن وصلنا حالياً إلى ربط قيمة بدلات الإيجار بالسوق العقارية الخاضعة بدورها للمضاربة".

ويذكّر عبد الله بأن ملف الإيجارات القديمة كان "قيد الحل عام 2004، بعد رعاية رئيس مجلس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، لتشريع شامل ينص على التحرير التدريجي للعقود مع ضمان حق التعويض والحق في الإيجار التملكي للمُستأجر، لكن عملية اغتياله عطّلت كل شيء، قبل أن يُقترح نواب مُقربون منه القانون الجديد".


ويشير رئيس تجمّع المالكين في لبنان، باتريك رزق الله، لـ"العربي الجديد" إلى أن "مصيبة المالك القديم في لبنان مزدوجة نظراً لفقر حاله رغم امتلاكه لعقار مبنيّ يُعطّل وجود المُستأجر القديم فيه أي فرصة لتحقيق ربح جديّ أو حتى ترميم الأبنية المتهالكة".

وأثار حكم قضائي عام 2015 بإدانة مالكي أحد المباني التي انهارت في منطقة الأشرفية في بيروت جدلاً كبيراً نظرا لعدم قدرة المالك على الترميم، ونص الحكم على "إلزام المالك بالتعويض لأسر ضحايا المبنى المنهار". وكانت الكارثة قد وقعت عام 2012 وخلّفت 27 قتيلا من أفراد العائلات التي تقيم في المبنى ضمن نظام الإيجار القديم.



اعتراضات بالجملة على القانون

جاء إقرار قانون الإيجارات قبل عامين في ظل تقلص الأراضي الصالحة للبناء في العاصمة بيروت، (تشير آخر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن نقابة المهندسين اللبنانية عام 2013 إلى اقتصارها على 64 قطعة أرض فقط)، واقتصار رأس المال الاستثماري القادر على إنشاء وحدات سكنية جديدة على عدد قليل من الشركات العقارية المرتبطة بالمصارف. وتشمل قائمة المعترضين على القانون الجديد: رئيس مجلس النواب نبيه بري، مجلس شورى الدولة، المجلس الدستوري، والمالكين والمستأجرين معاً الذين يعتبرون أن القانون ظالم بحقهم.

ويصف المحامي واصف الحركة مقاربة القانون لواقع الإيجارات بأنها غير عادلة، ويقول إن "ما لم تفعله الحرب الأهلية اللبنانية في فرز سكن المواطنين على أساس طائفي ومناطقي، يقوم به هذا القانون في فترة السلم من خلال نقل المستأجرين من بيروت التي لا تزال تحتفط بحد أدنى من التنوع السكاني بين الطوائف، إلى ضواحيها التي تتميز بالتقسيم الطائفي، إذ سيبحث كل مستأجر عمن يستوعبه ضمن طائفته (الضواحي الشرقية والشمالية ذات أغلبية مسيحية، والجنوبية مقسمة المناطق بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة)". كما ينتقد الحركة "لصق صفة الاستثناء بالقانون الجديد، في وقت تؤدي مفاعيله إلى تغييرات ديموغرافية واجتماعية دائمة".

وتبدأ جردة الطعن في القانون من "مخالفته الدستور اللبناني لجهة عدم تحقيق العدالة الاجتماعية أو المساواة بين اللبنانيين". كما يؤكد الحركة أن القانون الجديد غير قابل للتطبيق نظراً لطعن المجلس الدستوري بمجموعة مواد "كفيلة بتعطيل القانون كاملاً". ويُفند المحامي اللبناني أبرز المواد الخلافية وكيفية معارضتها لأحكام الدستور: "ينص القانون على تشكيل لجان تخمين ومنحها صفة قضائية لتحديد قيمة بدل الإيجار بناء على سعر العقار، وهو عامل خاضع للمضاربة ما يعني رهن حياة المستأجرين بعوامل السوق. وتضرب هذه اللجان مبدأ التقاضي على درجتين لأن قرارات هذه اللجان غير قابلة للطعن، كما لا يُحدد القانون الخطوات الواجب اتبعاها في حال اعتراض أحد الطرفين (المالك والمُستأجر) على نتيجة التخمين".

كما "نص متن القانون على سريان تنفيذه بعد 6 أشهر على إقراره في مجلس النواب، من دون تحديد أي موعد أو شكل لصندوق دعم المُستأجرين الأكثر فقراً، ما يعني مطالبة المُستأجر بدفع كامل الواجبات المترتبة عليه، من دون تحديد آلية لتحصيل حقوقه". وقد تجاوز عدد طلبات المساعدة التي تقدم بها المُستأجرون خلال عامين 26 ألف طلب، "وكان رد وزارة المالية أنها لا تمتلك الموارد الكافية لدفع هذه المساعدات، كما منعها قرار مجلس شورى الدولة من دفع أي مبالغ أصلاً بسبب طعن المجلس الدستوري بمواد القانون"، بحسب الحركة، والذي أكد أن "وزارة المال ولدى مراجعتها أكدت أن كلفة التعويضات التي يطالب بها المُستأجرون لا تتجاوز فقط قدرات الخزينة اللبنانية، لكنها تفوق كلفة إقرار سلسلة الرتب والرواتب الجديدة التي يطالب بها الموظفون في القطاع العام".


ويرى كاسترو عبد الله أن هذا القانون "تعاطى مع المستأجرين ككتلة واحدة دون النظر إلى الحالات التي يجب استثناؤها من تطبيق القانون ككبار السن أو العجزة أو الفئات الأكثر فقراً". كما يحذر عبد الله من "الفرز الديموغرافي والطبقي الذي يفرضه القانون الجديد عبر تقليص مساحات العيش المُختلط، وإخراج ما تبقى من أبناء الطبقة الوسطى من العاصمة نحو الضواحي البعيدة. وهي ضواحٍ ذات بنى تحتية متواضعة ودون نقل عام مشترك".

وفي انعكاس لمدى خلافية القانون يحمل المالكون بدورهم مجموعة اعتراضات، أبرزها "المطالبة بتعويضات عن فترة الإقامة شبه المجانية للمستأجرين والتي استمرت طوال 40 عاماً، بحسب باتريك رزق الله رئيس لجنة المالكين الذي يشجع الاتفاقيات الرضائية مع المُستأجرين، على حد قوله.

ومن المتوقع أن يبدأ تطبيق قانون الإيجارات الجديد مطلع عام 2017 على العقارات المُخصصة للاستثمار كالمحال التجارية والمستودعات وغيرها، وهو الأمر الذي يُحذّر مُتابعون من أثره البالغ على الدورة الاقتصادية في لبنان.

دلالات